نظرة شاملة على مجمل التاريخ البشري، ترينا أن الحرب كانت ملازمة لتطور المجتمعات، وفعلا ثابتا عند كل الأمم، باختلاف ثقافاتها وأديانها. فلا يكاد يخلو مجتمع بشري من الحروب، وكأن البشر لديهم نزوع يبدو طبيعيا نحو استعمال السلاح وتطويره. لذلك كان توظيف الأسلحة متوارثا في اللغة والثقافة والأشعار والمرويات والصور، وكان التغني بأمجاد المحاربين جزءا أصيلا من أدب الشعوب الرفيع.

فهل توظيف الأسلحة وذكرها، في الأعمال الأدبية والأمثال الشعبية لمجتمع ما، مؤشر على تأصل العنف في ذلك المجتمع؟

يعتقد الكاتب صغير العنزي في كتابه «خطاب العنف وعنف الخطاب»، أن توظيف الأسلحة مثل السيف والقوس والرمح في الأمثال العربية، مؤشر على أن الثقافة العربية وتراثها الأدبي يضمر العنف، وأن العنف متأصل فيها، معلقا على المثل العربي الشائع «يا باري القوس بريا ليس يحسنه، لا تظلم القوس أعط القوس باريها».

يقول العنزي في كتابه: «جاءت هذه الحقول ملتبسة بتصورات العنف وأدوات الحرب، على الرغم من كونها تبدو في جوهرها متعارضة مع الممارسات العنفية، ويمكن تفسير هذا الانسجام بينها هنا بأمرين على الأقل هما: تجذر مفاهيم الحرب والقتال، في حياتهم وأنماط تفكيرهم ولغتهم تبعا لذلك».

لا شك أن مثل هذا الكلام يحمل من الغرابة وغياب الموضوعية الشيء الكثير، والمطلع على أطروحات النقد الثقافي والأدبي في العالم العربي، سيجد أن مثل هذه الأحكام الغريبة ليست حالة خاصة، فنحن أمام ظاهرة متفشية تطرح بتساهل كبير، وخصوصا أنها تناقش قضايا غاية في التعقيد وغير مفهومة الأصل والمنشأ، مثل ظاهرة العنف، وتستدعي تسليط الضوء عليها وتقديم حلول لها. هذه الظاهرة التي تسعى لربط تراث الثقافة العربية بالعنف تعسفيا، عن طريق التنقيب في القصائد والأمثال عن أي حادثة حرب، أو توظيف أدبي للسلاح أو تمجيد للمحاربين. فهل الحرب وما يترتب عليها من عنف، فعل غير طبيعي ينفرد به شعب دون الآخر، أم أنها خصيصة ملازمة للنشاط الإنساني؟

في مجتمعات الزراعة والصيد والغزو، كانت الحرب تمثل نشاطا اقتصاديا تعتمد عليه الدول، وهي مرحلة تاريخية في سلم التطور البشري نحو المجتمعات الحديثة. وكانت الحرب هي الوسيلة الوحيدة لدى شعوب العالم للدفاع عن النفس، وتأمين الحدود وتأسيس الإمبراطوريات، والعرب شأنهم كشأن بقية الشعوب، حرصوا على نشر قيمهم الدينية والثقافية بواسطة التمدد الإمبراطوري. في كتاب «أصول العنف» يقول جون دوكر الأستاذ في كلية البحث الفلسفي والتاريخي في جامعة سيدني: «إحدى الرؤى الراسخة التي تشبث بها الأثينيون، تدعي أن المدينة-الدولة على غرار أثينا لا تملك الحق بإنشاء إمبراطورية فحسب، بل في نشدان العظمة، والمجد الذي سيبقى حيا على مر العصور، عند تحولها إلى إمبراطورية. فتعتبر الإمبراطورية غير أنانية، بل إثارية تنشر القيم النافعة لكل الأمم والدول والشعوب، التي تبسط سيادتها عليها، لذلك ينبغي ألا تعارض قوة الإمبراطورية وسلطانها».

ويشهد تاريخ البشرية على تنافس الشعوب في بناء الإمبراطوريات، وهذا التنافس يأخذ طابعا عنيفا أحيانا، واستعمال السلاح حاضر بطبيعة الحال وانعكس ذلك على الأدب والشعر والأمثال الشعبية، باعتبار الأدب مرآة للمجتمع.

لذا حضور أدوات الحرب في الشعر والأمثال أمر طبيعي، ولا يعكس عقلية متطرفة أو عنفا مضمرا في أي ثقافة، وتحديدا لدى المجتمعات التي عاشت اقتصادات الغزو والحرب. فالعنف كان وما زال سلوكا غامضا ومحيرا، لا يمكن تفسيره بهذه الطريقة الغارقة في التبسيط، الذي يتعامل به الكاتب صغير العنزي في نقده للثقافة العربية.