متابعة لما ذكرناه في مقالة: (مقدمة لإعادة قراءة النص التاريخي السعودي في بداياته)، أقول إن ما يطلق عليه في كتب التاريخ الدولة السعودية الأولى والدولة السعودية الثانية، هما العمق السياسي والجغرافي والثقافي والاجتماعي للمملكة العربية السعودية، التي توحدت في: (12/05/1351هـ الموافق 23/09/1932م)، على يد الموحد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ابن الجيل الرابع من أحفاد المؤسس محمد بن سعود بن محمد بن مقرن -طيب الله ثراهما- مؤسس الدولة السعودية في عام (1139هـ/1727م).

وقد درجت غالب المصادر والمراجع التاريخية، على جعل تأسيس الدولة السعودية هو العام (1157هـ/1744م)، وهو عام نزوح الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- إلى الدرعية بعد طلب الأمير المغدور عثمان بن معمر -رحمه الله- منه مغادرة العيينة بسبب ضغط سليمان بن محمد بن عريعر الخالدي أمير الأحساء، بل وأكثر من ذلك، فقد صورت بعض الكتب التاريخية أن لقاء مؤسس الدولة السعودية الأمير محمد بن سعود، بالشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- على أنه لقاء مبايعة الأمير للشيخ على إقامة شرائع الله والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما إلى ذلك، بل تجاوز الأمر إلى أن بعض الكتب كانت تشير إلى إدارة الشيخ محمد بن عبدالوهاب لجزء من الدولة، فيما يتعلق بصرف الموارد الزكوية وتسيير الجيوش وتولية الولاة، وهذا لا تقوم عليه قرينة سليمة واحدة، فضلًا عن دليل يعتمد عليه، ولبناء رواية متماسكة أقرب إلى واقع ما حدث في عام (1157هـ/1744م)، وهو العام الذي تشير فيه كل المراجع إلى أنه عام التأسيس للدولة السعودية التي انطلقت من الدرعية -كما أسلفت- فلا بد أن نستعرض مجموعة من الأمور:

أولًا: كانت الدرعية (الدولة/المدينة) في فترة التأسيس وما بعده، ومن بداية تولي المؤسس محمد بن سعود حُكْمها، تشكل كيانًا سياسيًا مستقلًا، غير تابع لأحد، وكان المؤسس أول الأبناء الأربعة للأمير سعود بن محمد بن مقرن: ثنيان، ومشاري، وفرحان. والمؤسس محمد هو من تنسب إليه أسرة آل سعود، ومن المعروف أن الأسرة السعودية الكريمة يَعْتَزون كذلك بالانتساب إلى آل مقرن، ومن نخواتهم الشهيرة، حينما تنطلق شرارة الحرب (أنا ابن مقرن).

وكان المؤسس محمد بن سعود، رجل موقف ومبدأ، وكان ذا شكيمة وعزيمة، استطاع بحكمته وحزمه، إيقاف حالة من الاضطراب السياسي والقلق الأمني امتدت لفترة طويلة شهدت فيه الدرعية مجموعة من التقلبات والأحداث المأساوية، وأرسى في أول ولايته قواعد حكم ثابتة؛ لتشرق الدولة السعودية في عهده المجيد، وتستمر سلالته الكريمة في توارث الحكم، حتى وصل إلى يد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -أيده الله-، ابن الجيل الخامس من أحفاد المؤسس محمد بن سعود.

ثانيًا: تولى المؤسس محمد بن سعود، حكم الدرعية خلفًا لزيد بن مرخان، والذي قضى نحبه غدرًا على يد الأمير محمد بن حمد بن معمر، الشهير بخرفاش، حاكم العيينة، في قصة معروفة ليس هذا موضع ذكرها، وما يهمني هنا في هذه القصة أمران، الأول: مقتل موسى بن ربيعة، أثناء عملية اغتيال أمير الدرعية زيد بن مرخان، وموسى هذا كان لاجئًا لدى العيينة، وهو ابن عم لزيد ولمحمد بن سعود، وبمقتله -خطأ فيما يبدو- سلم المؤسس محمد بن سعود من منافس على الحكم شديد المكر والدهاء.

والثاني: أن المؤسس محمد بن سعود في ذات الحادثة، انحاز وتحصن في أحد أبراج أو غرف قصر ابن معمر، للنجاة بحياته، ولحماية المتبقين معه، ولم يستطع أتباع ابن معمر اقتحام المكان، فطلبوا منه الخروج، فأبى إلا بأمان الجوهرة بنت عبدالله بن معمر، عمة الأمير محمد (خرفاش) والأمير عثمان أمير العيينة التالي بعد أخيه، والجوهرة بنت معمر إحدى أهم الشخصيات النسائية في التاريخ السعودي، وسأذكر أهمية هذا الأمر، لاحقًا.

وهناك أمر ثالث يمكن أن يضاف إلى السابق، وهو أنه في ذات العام 1139 للهجرة، حدث خلاف بين أمير العيينة، وبين قاضيها الشيخ عبدالوهاب بن سليمان، والد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أدى بابن معمر إلى عزل الشيخ عبدالوهاب.

ثالثًا: كانت القوى الصغيرة حول الدرعية، هي إمارة ابن معمر في العيينة، وإمارة دهام بن دواس في الرياض، وغيرها، ولم تكونا على وفاق طيلة الوقت مع الدرعية، وخصوصًا دهام بن دواس، ويضاف إلى ذلك أن القوى الكبرى في الجزيرة القريبة من الدرعية، وهما الأحساء بقيادة الخوالد، والحجاز بقيادة الأشراف، تدين لأحدهما بالولاء الإمارات الصغيرة في نجد، ما عدا الدرعية، والتي تفردت بالاستقلال التام في قرارها ومصيرها، إبَّان إمارة المؤسس محمد بن سعود، ومن ذلك استقباله للشيخ محمد بن عبدالوهاب، على الرغم من شدة عداوة تلك القوتين للشيخ عطفًا على ما فعله في العيينة، وعطفًا على آرائه الإصلاحية التجديدية الكبيرة وقتها.

رابعًا: انتقل الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- إلى الدرعية من العيينة، بسبب أمور كثيرة جرت بينه وبين بعض خصومه من المشايخ وغيرهم، إلا أن ما أوقد شرارة الأمر وأضرم ناره، هي حادثة رجم الزانية في قصة معروفة، جعلت أولئك المشايخ يحرضون أمير الأحساء سليمان بن محمد بن عريعر، على الشيخ، والذي بدوره -أي ابن عريعر- أوعز إلى أمير العيينة وقتها، عثمان بن حمد بن معمر، أن يقتل الشيخ، أو أن يطرده من البلد، وشدد في ذلك، خصوصًا مع وجود مصالح للعيينة ولابن معمر في الأحساء، فخرج الشيخ محمد بن عبدالوهاب من العيينة إلى الدرعية، وجاء أول ذكر لهذا الخروج بشيء من التفصيل المعقول والمقبول، على لسان الشيخ حسين بن غنام، وهو تلميذ الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهذا وأضاف عليها الشيخ عثمان بن بشر، والذي ولد بعد وفاة الشيخ ابن عبدالوهاب بأربع سنوات، في تاريخه بعض التفاصيل، وعنه نقل المؤرخون من بعده، مما جعل تحليل الوقائع تشرق وتغرب، في مسألة تأسيس الدولة السعودية، وللحديث بقية.