هو شاعر من شعراء الدولة الأموية، يعبر شعره بصدق عما عرف به شعراء المدينة المنورة في العصر الأموي، من رقة وتحضر وسهولة في التعبير، وبساطة في الأداء، ومسارعة إلى مخالطة الوجدان ومصافحة القلوب، وقد كاد بيتان رقيقان من شعره أن يوديا بحياة شيخ من شيوخ الكوفة انفعالًا وطربًا، وذلك فيما روى صاحب الأغاني أن رفقة من شباب الكوفة جمعهم سفر مع شيوخها فوق سفينة على ظهر الفرات، وفي ضوء القمر الهادئ المتعانق أمواج النهر الهامس. ألحت عليهم دواعي الحنين. وتحركت فيهم كوامن الأشواق، فتقدموا إلى الشيخ يستميحونه العذر في صبواتهم النهرية، إن هم تغنوا للقمر. وطربوا لرقصات الأمواج، وقالوا له: إن معنا قينة تجمل بغنائها الرحلة وتوشي أطرافها بألحانها العذاب. ولكننا نجلك ونرعى فيك فارق العمر وتقدم السن. قال الشيخ: أنا واحد وأنتم جماعة، وما أرى إلا أنكم فاعلون فشأنكم أيها الشباب وتناولت الجارية الحسناء عودها ثم رفعت عقيرتها بالغناء، ببيتين لشاعرنا إسماعيل بن يسار النسائي في صاحبته كلثم يقول:

حتى إذا الصبح بدا ضؤوه

وغارت الجوزاء والمرزم

خرجت والوطء خفي كما

ینساب من مكمنة الأرقم

فتمايلت الرؤوس، واهتزت النفوس وكررت الجارية اللحن ومدت في الغناء. فإذا بالشيخ لا يتمالك نفسه من التواجد، ويقوم ويقعد، ثم ينهض ويرمي بنفسه في النهر، ويصيح وهو يحيط بكلتا يديه في الماء:

أنا الأرقم أنا الأرقم! فيضطرب الجمع. وتمسك الجارية. وتدركه مجموعة من الشباب وقد كاد يغرق. قالوا له ما صنعت بنفسك يا شيخ..؟ فقال: دعوني.. فإني والله أعلم من معاني الشرع ما لا تعلمون.

وقد كان هذان البيتان أيضًا سببًا في اتصاله بخليفة شاعر، عارف بمواطن الجمال في الشعر. عالم بما في الكلمة من إيحاءات نفسية وإيماضات وجدانية آخاذة خاطفة. ذلكم هو الخليفة الأموي الوليد بن يزيد. سمع إحدى جواريه تغني هذين البيتين. فبلغ به السرور منتهاه، وسأل من حوله لمن هذا الشعر الرائع؟ قيل له: إنه لرجل من أهل المدينة يقال له إسماعيل بن يسار. فکتب إلى واليه على المدينة: أن أرسل إلي بالشاعر إسماعيل بن يسار مكرمًا. فلما قدم عليه استنشده القصيدة التي منها هذان البيتان. فطرب الوليد لها طربًا عظيمًا جعله ينزل عن سريره. وأمر للشاعر بكسوة وجائزة كبيرة. ثم رده إلى المدينة معززًا.

ولم يكن الوليد بن يزيد هو الخليفة الوحيد الذي اتصل به هذا الشاعر. وعرف له مكانته الشعرية، وأجزل له العطاء رغم أنه كان من أتباع ابن الزبير، بل قدم قبله على عبد الملك بن مروان حين آل إليه الأمر بعد مقتل عبد الله بن الزبير، وهزيمة أعدائه وتفرقهم في الآفاق، دخل إسماعيل عليه مادحًا. ولكنه حين استأذن في الإنشاد استوقفه عبد الملك وقال له: الآن يابن يسار؟ إنما أنت امرؤ زبيري. فبأي لسان تنشد؟ فقال له معتذرًا: يا أمير المؤمنين أنا أصغر شأنًا من ذلك. وقد صفحت عمن هم أعظم جرمًا وأكثر الحناء لأعدائك فكيف بشاعر مضحك مثلي؟ فتبسم الملك. وأومأ إليه ابنه الوليد بأن ينشد.

ويبدو أن الشاعر حرص على عدم التعرض شعرًا لغلبة عبد الملك على ابن الزبير، وذلك وفاءً جيدًا منه للزبيريين، أي أن رغبته في الحصول على العطاء لم تدفعه إلى التضحية بعلاقته الوجدانية بإحيائه السابقين. كما نلحظ أنه لم يمدح عبدالملك بغير الكرم والاقتداء بمن سبقه الخلفاء. ولعله لا يوجد أي مديح في الصفة الأخيرة. بل لا تزيد عن كونها تأكيدًا جديدًا لموقفه من الأمويين، فعبد الملك يسير على نهج من حاربهم من عبدالله بن الزبير من الخلفاء الأمويين ويقتدي بهم. ولا ينقض قضاء أبرموه. وقد يكون في عدم ترتيبه ذكر أبنائه حسب أسنانهم أو حسب ولا يتهم للعهد إيقاع خفي بين الإخوة وإيحاء لهم بالتنازع الذي يريحه ويشفي منهم غليله، وقد قابل عبد الملك هذا التشويش الذكري ببسمة السياسي المحنك والوالد الحاني. فالتفت إلى سليمان قبل ورود اسمه في البيت الأخير وقال: قد أخرجك إسماعيل من هذا الأمر. فقطب سليمان ونظر إلى إسماعيل نظرة غاضبة، فقال إسماعيل يا أمير المؤمنين.. إنما وزن الشعر أخرجه من البيت الأول.

وكان إسماعيل يجمع إلى شاعريته المتوقدة: خفة الروح. وبراعة النكتة، وسرعة البديهة، والميل الى الظرف، مع قدرة مشهودة على الإفحام. ولذلك كان له في المدينة أصدقاء وجلساء، يستطيبون حديثه، ويقصدون بيته في «حديلة» للتحدث إليه والاستمتاع بمجالسته، وحديلة مكان يقع شمالي الحرم النبوي الشريف اليوم قرب البيرحاء، أي قرب فندق قصر المدينة.

بقي أن نقول إننا لم نجد تاريخًا لولادته أو وفاته، غير أنه من خلال أحداث حياته يترجح أن تكون ولادته في آخر عصر صدر الإسلام. لأنه رافق أحداث حرب ابن الزبير كما أنه كان من المعمرين. أما وفاته فإنها كانت قطعًا قبل سقوط الدولة الأموية. إلا أن آخر خليفة أموي زاره في دمشق هو الوليد بن يزيد. وكان ضعيف القوى ومعنى هذا أنه مات في آخر العصر الأموي.

وبقي أن نقول أيضًا إن لقبه النسائي هذا، إنما هو بكسر النون نسبة إلى النساء، الذي هو من أسماء جموع المرأة، غير أن سيبويه يرى أن النسب إلى نساء على هذه الشاكلة غير مقبول، وينسب إلى القلة (نسوة) فيقول: نسوي وفي عصرنا الحاضر يستعمل الكتاب الطريقتين معًا، وان كانت الأولى أكثر شيوعًا واستعمالًا. وكيفما كان الأمر فان هذا اللقب جاء إلى شاعرة من أبيه يسار الذي كان يصنع طعام الأعراس ويتقنه أيما اتقان، فكأنما هو يساعد وصول العرسان من الرجال على الوصول إلى العرسان من النساء. وإن كان المنطلق يفرض أن يكون اكتسابه هذا اللقب ناشئًا من علاقة أكبر له مع النساء. كاشتغاله بحرف نسوية أو لقيامه بخدمات نسائية. وعلى كل حال يبقى التعليل الأول هو الأقوى لاستناده إلى المراجع والرواة.

1978*

*شاعر وأكاديمي سعودي«1935 - 2012».