في كل مرة يبرق فيها برق التواصل بين أتباع الدين الواحد أو بين أتباع الأديان المختلفة، يخرج على الملأ المثبطون والمرجفون ومحترفو قطع الطريق؛ ومن أحدث الاعتراضات النقاش الدائر هنا وهناك حول «بيت العائلة الإبراهيمية»، الذي يضم ثلاث دور عبادة (مسجداً وكنيسة وكنيساً)، الذي تم تدشينه في منطقة السعديات الثقافية، في العاصمة الإماراتية، في الخامس والعشرين من شهر رجب الماضي، ليكون منارة جديدة للحوار والمعرفة.

سأستعمل أقصى درجات حسن الظن في مقالي، وأعيد سبب الجدل الحاصل إلى الخلط العابر بين «العائلة الإبراهيمية»، و«الديانة الإبراهيمية»، وشتان بينهما؛ إذ إن مزج اليهودية والمسيحية والإسلام في رسالة سماوية واحدة أو دين واحد مستحيل، وغير وارد جمع الخلق على ذلك، وهذا لن يكون في أي زمان أو مكان، لا في أذهان الدعاة إلى الاجتماع الإنساني وتوحيده أو في عقليات الداعين إلى القضاء على أسباب النزاعات والصراعات، لأنه وببساطة شديدة مخالف للفطرة التي فطر الخالق عليها عباده، وأن أغلى ما يملكه الفرد هو حرية الاعتقاد، وحرية الإيمان، وحرية الاختيار، ولست محتاجا لسرد النصوص الدالة على ذلك، ويكفيني منها قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين}، وهو نص واضح في ضرورة إدراك أن اختلاف الناس في ملة أو عقيدة واحدة اختلاف جذري، ومن الضرورة فهم أن الإسلام واليهودية والمسيحية، ديانات إبراهيمية مستقلة، وإن كانت تشترك في الكثير من القصص والتعاليم، ومن المهم أن نفهم أيضا أن الأديان الإبراهيمية ليست مجرد محاولات للسلام بين البشر، بل هي نظم دينية تتبنى مجموعة من المعتقدات والممارسات الروحية والاجتماعية، ومن الممكن أن تعمل على تعزيز السلام والتعايش السلمي بين الناس، إذا تم تطبيقها بشكل صحيح، كما يجب أن نفهم كذلك أن الأديان الإبراهيمية لها تبعات اجتماعية وتاريخية معينة، ويمكن لها ورغم النزاعات في الأفهام، أن يساعد أتباعها في تعزيز التفاهم والاحترام بينهم، من خلال التركيز على القيم المشتركة، كالعدالة والرحمة والتسامح والمحبة، ويمكن جدا القول وبكل ارتياح إن الأديان الإبراهيمية هي جزء من التراث الثقافي والديني الغني للإنسانية، ويجب علينا احترام وتقدير معتقدات الآخرين، ويجب على المتدينين من كل الأديان العمل معًا على تعزيز السلام والتفاهم بين جميع الثقافات والأديان، دون ذوبان، أو انصهار.

أختم بأن مما يعجب له المتابع للنقاش المتقدم ذكره الاحتجاج ضد «بيت العائلة الإبراهيمية»، بفتوى مشايخنا في اللجنة الدائمة للإفتاء، رحم الله تعالى من رحل منهم، وحفظ من بقي، التي صدرت قبل أكثر من «ربع قرن»، حول موضوع «وحدة الأديان»، إذ لا عاقل ينشد من وراء التقارب بين أتباع الأديان إلغاء الفوارق بينها أو أن نساوي بينها أو أن نصهرها في قالب واحد أو أن نذيبها في بعضها، كما ذكرت آنفا، بل إن الدعوة إلى ذلك لا تجوز شرعا، والجائز بل الواجب علينا كمسلمين هو البيان بطريق المجادلة {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن}، وعدم الوقوف ضد أي مبادرات تشير إلى أهمية القيم والتعاليم المشتركة بين الأديان، وفي ذات الوقت أهمية الحرص على البحث عن الحقيقة، والتفهم المتبادل، وتجنب الانحياز العنيف، والتشدد والتعصب بين أتباع الدين الواحد، فضلا عن أتباع الثقافات والأديان المتنوعة، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون}.