تحظى المدينة المنورة بمكانة استثنائية لدى المسلمين في العالم، ولا شك بأن المدينة قد اكتسبت قداستها الإسلامية بوجود المسجد النبوي والحجرة النبوية، ولكونها مهاجر النبي وعاصمة الإسلام الأولى.

لكن هذا ليس كل شيء.. فالمدينة أو يثرب كما كانت تسمى قديمًا هي واحدة من أقدم الحواضر في العالم.

يعود التاريخ المعروف لبناء المدينة إلى ما يقارب 4000 سنة، حيث يرجح أن قبائل العماليق هاجرت في عام 1900 ق.م من غرب الفرات وانقسمت، فسكن اليبوسيون بلاد الشام ونزل العبيليون جنوبًا إلى يثرب.

ونقلت هذه القبائل معها طرق الحياة البابلية من عمران وزراعة وتجارة وكذلك طرق بناء الحصون والآطام لحماية مدينتهم. تلا ذلك هجرات اليهود المتتالية إلى يثرب بعد أن دمر الغزو البابلي على يد نبوخذ نصر ممالكهم.

ثم تلا ذلك هجرة الأوس والخزرج من اليمن إلى يثرب بعد انهيار سد مأرب.

استمرت المدينة في النمو والاتساع وكانت في معظم فتراتها التاريخية مسالمة مع الخارج وبراغماتية ومتنوعة اجتماعيًا، إلا أن التاريخ يذكر جملة من صراعات القوى بين المكونات السياسية تخللتها أحداث كثيرة. ثم دخلها الإسلام فأنهى حقبة من الخلافات العرقية والدينية، وانطلقت منها مرحلة جديدة أصبحت فيها (المدينة) مصدر قوة عالمية جديدة وغير متوقعة.

لم يتوقف التاريخ هنا بل استمرت المدينة حاضرة في الأحداث الكبرى التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، مرورًا بموقعها من المشاهد التاريخية المختلفة، ووصولًا إلى عصرنا الحالي.

وتاريخيًا ورد اسم يثرب في كتابات المؤرخ اليوناني (اسطرابون) الذي يرجح أنه مر بها في عام 25 ق.م كما ذكرها لاحقًا عالم الفلك (بطليموس)، ثم احتلت مساحة كبيرة من كتابات المؤرخين والرحالة، وكانت نموذجًا مهمًا في عدد من أطروحات علم الاجتماع التاريخي.

المدينة المنورة سر قديم وأرض عبرت عليها حضارات وديانات وقبائل وملاحم.

المدينة بلا مبالغة كنز ثقافي نائم في منعطفات التاريخ وربما يكون قد حان وقت استيقاظه.

لا شك أن الاهتمام بالتنمية وتطوير البنى التحتية وخدمة المسجد النبوي وتنظيم الزيارة تأتي في أولويات كل الأعمال والجهود الحكومية المبذولة من كافة القطاعات.

إلا أن الجانب السياحي الثقافي لا يبدو ظاهرًا على الوجه الذي يمكن من خلاله تقديم الوجه التاريخي والإنساني للمدينة وتعريف الشعوب الأخرى بهذه البقعة العريقة من العالم.

اليوم لا تكاد ترافق أحد كبار السن في طرقات المدينة إلا وتتحفز ذاكرته ليحكي لك عن المدينة القديمة فيصف لك الحارات والأحواش والأزقة، ويحكي لك عن العادات الاجتماعية والعلاقات الأسرية، وكأنما المدينة في حالة إفصاح مستمر عن كينونتها.

المدينة ظلت حالة فريدة في تنوعها العرقي واختلاط مكوناتها في قالب اجتماعي كبير دون ذوبان لأي مكون مما أنتج بالتالي فسيفساء ثقافية لا تخطئها العين.

ختامًا.. في ظل الاهتمام الكبير الذي توليه بلادنا للقوة الثقافية ولإبراز الهوية الاجتماعية والتاريخية للوطن أجد أنه من المهم جدًا وضع المدينة المنورة في قلب صناعة الحدث الثقافي.

إن اختصار المدينة المنورة في السياحة الدينية يفوت ما تتمتع به من خصائص تاريخية ومميزات جغرافية وآثار وتنوع بشري مذهل.

بعبارة أخرى أقول.. نحتاج لجهود أكبر نستثمر فيها ذاكرة المدينة البعيدة المدى ونحولها إلى لغة منطوقة وقصص محكية عبر أدوات الثقافة المختلفة.