لم يكن التماس الأول بين الدكتور سعد الصويان والشعر، تلك القصيدة التي ألقاها في طفولته، بين يدي جلالة الملك سعود بن عبد العزيز، حينما زار عنيزة، بل من خلال ما تلقاه في طفولته من جده لأمه، الراوية محمد السليمان الصويان، فقد ولد سعد الصويان في فلاحة «مزرعة» في الجناح أحد أحياء عنيزة الآن، وتربى في حجر جده محمد، إذ إنه تيتم، وفقد والديه قبل الفطام.

وأسرة الصويان الكريمة من الزهير من بني صخر، تعود جذورها إلى بلدة الشنانة، والتي خرجت منها الأسرة بعد ما يعرف «بقطعة الشنانة»، حينما وصلها عبدالعزيز المتعب الرشيد في جمادى الأولى عام 1322، ومكث فيها بعض الوقت، وكان من نتاج بقائه أن قطع نخيلها، وهدم بيوتها، وقتل فيها من قتل، وباتت الشنانة البلدة العامرة والغنية بمزارعها وأناسها غير صالحة للعيش، مما اضطر غالب أهلها إلى مغادرتها، ومن هنا تفرقت أسرة الصويان في البلدات القريبة والمجاورة، ومنها عنيزة التي قدم عليها محمد بعد ترحال طويل، تنقل فيه بين عدة مدن ومناطق، وزاول مجموعة من الوظائف، ليعمل في فلاحة الأرض، ويتزوج من السيدة الفاضلة مزنة العميم، وينجب مجموعة من الأبناء والبنات، ومنهم ابنته نورة، التي تزوجت قريبها الشاعر المرموق، والمعدود في شعراء القصيم المبرزين عبد الله البراهيم الصويان، فأنجبا النجيب سعد.

الراوية محمد الصويان، عاصر أهوالًا لم تكن لتمر بكثير من الناس، حيث شهد «قطعة الشنانة» في يفاعة شبابه، ثم ارتحل بعدها مباشرة إلى المدينة المنورة مشيًا على الأقدام، في رحلة حفته فيها المخاطر والأهوال والأحداث الجسام، ليس أقلها تمرده هو ومجموعة معه على الجيش العثماني من داخله، وكأن القدر يهيئ للصبي سعد، جامعة حياتية ينهل منها المواقف والأحداث، قبل الأشعار والحكايات والأساطير، لتستقر في ذهنه ووجدانه، وكأنها خريطة لكنز من كنوز ألف ليلة وليلة، تطلب الأمر من سعد للوصول إلى غايته، رحلة علمية دامت لأكثر من خمسة عشر عامًا، تغرب فيها، حتى وجد كنزه، ليعود ويفتحه وينثر حليه وذهبه ومجوهراته بكل سخاء، في ساحات المعرفة والثقافة العربية والسعودية.

ولم يكن العمل على «السواني» واستخراج الماء للزراعة، من قبيل صلاة الفجر وحتى الضحى، هو الذي صقل همة الصبي سعد وشغفه، وجهزته لمشاق مهامه المستقبلية، بقناة لا تلين، وريح لا تهدأ، بل أثرت فيه كذلك تلك الملكة الاستثنائية لجده محمد، في غزارة المحفوظ وقوة الحفظ من الأشعار والحكايات وأحداث التاريخ، ناهيك عن القدرة الهائلة في الرواية والسرد والاستعمال اللغوي، واختيار المفردات والعبارات، مع قوة تفسيرية في شرح الأبيات، ودقة في النقل، وأريحية في القص، لما حدث كما حدث، بلا مواربة ولا غمغمة، حتى لو كانت الحكاية تحتوي على أحاديث مثلث التابو المحرم «الدين والسياسة والجنس»، وبهذه المعطيات فإني أعتبر جده محمد، هو المشرف الأول على أطروحات الدكتور سعد العلمية، بما فيها رسالتا الماجستير والدكتوراه: «مكانة الجن في العالم العربي»، و«الشعر النبطي: الشعر الشفهي في الجزيرة العربية»، وهذا يعطي مؤشرًا عميقًا على أصالة ما كتبه الدكتور سعد، قبل أن يبدأ مشروعه الفكري الكبير، عن ثقافة الصحراء العربية، وحتى تعرفوا الجامعة الأولى، التي درس فيها الدكتور سعد أولًا، ارجعوا إلى كتاب «صفحات مطوية من تاريخنا الشعبي، 1431هـ» لعبد الرحمن الصويان.

على كلٍ، حينما بدأ الدكتور سعد في تجسير الهوة بين الشعر الجاهلي، وصنوه الشعر النبطي، كان يدرك أن ما يقوم به ليس انتصارًا، لأصالة أشعار أسلافنا عرب ما قبل الإسلام فقط، بل كان ينتصر للوثيقة الأهم في حياة أبناء الجزيرة العربية، وهي الشعر، الذي خلد أيامهم وغزواتهم، وأنسابهم، وممتلكاتهم، وثقافتهم، وأكثر ما كان يتعجب منه، أنه كيف فات على كبار الرواد في السعودية، الرد على ادعاءات طه حسين، المنحولة بحد ذاتها، مع أن الدليل كان متوفرًا بين أيديهم، وهو الشعر النبطي؟!

وأرى أن ذلك ربما يعود إلى كون الرد، لابد أن ينطلق من شمولية أكبر من أن يؤخذ من زاوية واحدة: تاريخية كانت، أو بلدانية، أو أدبية، وأن يحتوي على منهجية نظرية وتطبيقية في وقت واحد، وهذا يعني أن يكون فيها عملية ارتحال وتنقل وتدوين، وأخذ من أفواه الرواة، ومشروع علمي واثنان وثلاثة، قبل أن يتم الرد المبرم، على فرية انتحال الشعر الجاهلي، والذي يجب أن يكون في سياق تفاصيل أنثروبولوجية متعددة الجوانب، عن إنسان جزيرة العرب، ولذا لم أكن مندهشًا حينما أثنيت على كتابه «ملحمة التطور البشري - 2013»، فرد عليّ «بأن كتاب الملحمة فيه جهد وتعب كبير، في الجمع والتحليل والشرح، وما إلى ذلك من العمليات المعرفية، غير أن الكتاب الذي اقتطعته من روحي، هو كتاب: «الصحراء العربية، 2010»».

ويأتي في ذات السياق، الكتاب الملحمي الآخر، «أيام العرب الأواخر، 2010»، والذي يتمنى فيه الدكتور سعد أن يسجله بصوته، وينشره، لأنه يخشى أن الأجيال القادمة لن تستطيع قراءته مكتوبًا، لعدم معرفة النطق الصحيح للألفاظ الواردة فيه، مما يعني أنهم لن يعرفوا معانيه ودلالاته، ولن يستطيعوا بالتالي تصور الحياة التي يصورها، غير أن وضعه الصحي ما زال يقف حجر عثرة، أمام تحقيق هذه الأمنية -شفاه الله-.

أخيرًا، فمن أوائل السبعينيات حينما كان الدكتور سعد الصويان، يقضي أوقاته في مقاهي بيركلي، وسان فرانسيسكو، يحاول أن يرتب أفكاره، ويصوغها بشكل يفند به كل ادعاء، بانتحال الشعر العربي الجاهلي، وحتى اليوم، ما زال إذا ذكر الشعر الجاهلي، يبرز وجه الدكتور طه حسين، الذي أخفق في الانتصار للغته بالحق، وحان الوقت الذي يتبدل فيه الوضع، وتوضع الأمور في نصابها الصحيح، وذلك عن طريق عقد مقارنة بين مقابسات الدكتور سعد، مع الدكتور طه، في قضية الشعر الجاهلي، مع بيان منهج الاستدلال، الذي اتبعه الاثنان، الأول من خلال البحث الميداني، للقاء الشعراء والرواة، في مطاردة لفك شفرات الشعر النبطي ودلالته على الشعر الجاهلي، والثاني بالتقليد لمنهجية «مرجليوث»، و«ميلمان باري»، و«ألبرت لورد»، المطبقة على ملاحم الإغريق، والتي تختلف شكلًا ومضمونًا عن القصيدة.