بدت (العاصمة المقدسة) مكة المكرمة ظهر أمس، كأنها تتكلم بصوت تخيم عليه مرارات الحزن وهي تودع عبد الوهّاب بن إبراهيم أبو سليمان (1935 - 2023) أحد أهم أبنائها ووجهائها من أولئك (الرجال) الذين لا يمكن أن يجود الزمن بأمثالهم إلا قليلا. لم يكن الطفل الذي ركض قبل أكثر من 80 عامًا بين الأزقة الضيقة في حارات مكة بالقرب من باحات الحرم يعرف ما سيخبؤه له الدهر، وأن ثم حلقات تضج بالدرس وأصوات العلماء، بأروقة الحرم المكي، وهي تكتظ بطلبة العلم متحلقين حول علماء في كل حقول العلوم الدينية وعلوم اللغة والمنطق تناديه، وتزرع في أعماقه شغفًا بالعلم والمعرفة، فأوجد لنفسه فسحة بينهم، معطيًا وقته كله للعلم والدرس والمعرفة، ملازمًا في المساء العلامة المحدث الفقيه القاضي، حسن بن محمد المشاط.. جنبًا إلى جنب التحاقه صباحا بالتعليم العام الذي واصله حتى تخرجه في كلية الشريعة بمكة المكرمة عام 1956. ينخرط في حياته العملية مدرسًا، لكن داخله تنبعث صرخة شغوفة، تنبئ عن روح وعقل لم يكتف من المعرفة. حتى يعين معيدًا بكلية الشريعة عام 1964، ثم يبتعث إلى جامعة لندن لدراسة القانون المقارن عام 1965، فينال درجة الدكتوراة في 1970، فيلبي شغفه القديم تطلعاته بالتدريس الجامعي في جامعتي الملك عبد العزيز، وأم القرى، وعددًا كبيرًا من الجامعات الأوروبية والأمريكية، منها كلية الحقوق بجامعة (هارفارد) كأستاذ باحث في الفقه.. وألف نفسه هناك مدعوا لإلقاء محاضرات عن القانون الإسلامي وتطبيقه، في جامعة «بوستن» بالولايات المتحدة الأمريكية.

عضو هيئة كبار العلماء (حليق اللحية) كان أول من ناقش فقهيا البطاقات البنكية، لكنه كان يجد المتعة في بحوث تتعلق بتاريخ مكة.. لما ضاق المسعى باستيعاب المعتمرين والحجاج. رأت الحكومة السعودية توسعة (المسعى) فظهرت أصوات معترضة، فكان أبو سليمان في طليعة من توجهت الأبصار عليه، فهو العالم الباحث الفقيه، ومن أبناء مكة، فتصدى لتلك الأصوات بدراسة (فقهية/ تاريخية / بيئية/ جيولوجية) حملت عنوان (توسعة المسعى عزيمة لا رخصة)، أزالت الدراسة الشكوك وطمأنت النفوس، (فقد أثبت عرض جبل الصفا لمسافة تجعل التوسعة شرعية، فالسعي بينه وبين جبل المروة هو المطلوب شرعًا، ولم يكن في امتداد عرض المروة إشكال.. ولم يكن المعاصرون من المسلمين قد شاهدوا جبل الصفا قبل إزالة جزء كبير منه كما شاهده أبو سليمان في مقتبل عمره).