نستطيع القول بأن الفقهاء العرب كانوا ضد المنطق وضد العقل، بل كانوا ضد العلم الطبيعي. وفي الوقت نفسه كانوا أقرب بأفكارهم ومناهجهم، للعلم الطبيعي والتجريبي الحديث من الفلاسفة اليونان. يبدو كلامي هنا وكأنه يحمل شيئا من التناقض. فكيف يجتمع الشيء ونقيضه في قضية ما؟ وقبل الإجابة عن التساؤلات المترتبة على قولنا هنا. يجب أن نعرف ماذا يعني العقل والعلم الطبيعي في أفهام العرب وفي أفهام الشعوب اليونانية، وفي أي شكل وصورة يقبلون العقل وفي أي شكل وصورة يرفضونه.

فالعقل العربي يختلف جملة وتفصيلا عن العقل اليوناني، اختلاف له اعتباراته الدينية والثقافية. وصف المفكر المصري نصر حامد أبو زيد الحضارة اليونانية بأنها حضارة العقل، وهو وصف يبدو للوهلة الأولى وكأنه يضفي صفة التنوير والتقدم والرقي على الحضارة اليونانية. ولكن أبو زيد لم يشرح طبيعة هذا العقل الذي كان محركا وجوديا للشعوب اليونانية، ودارت حول مركزه كثير من أفكار الفلاسفة. وحول هذا العقل اليوناني ظهر للوجود حقل معرفي يوناني يعرف بعلم الطبيعة أو الطبيعيات. كان الفقهاء العرب يقفون ضد هذا العقل وما يترتب عليه من علوم طبيعية أو طبيعيات. ويجب أن نعرف أن العلم الطبيعي الحديث لم يكن معروفا عند البشرية آنذاك، ولم يأخذ شكله المستقل عن المعتقدات الدينية. لذلك يجب أن نعي الفروق الجوهرية بين علم الطبيعة عند الشعوب اليونانية وبين علم الطبيعة الذي نعرفه اليوم.

العقل اليوناني كما أسلفنا يختلف عن العقل العربي اختلافا جوهريا، فهو - العقل اليوناني- عنصر مشترك بين الكائنات الإلهية والكائنات البشرية. عقل كامن في الأشياء الطبيعية والعالم المادي ويحدث فيها الحركة ويعطيها الصورة والهيئة، وكثير من تنظيرات الفلاسفة كانت نتيجة الإيمان بكمون العقل الإلهي في الطبيعة ومظاهرها، العقل الذي يتخلل العالم المادي ويمثل قوة تحرك العالم. فالطبيعة حسب معتقدات الفلاسفة كائن حي ومفكر وعاقل روحه الإله المنبث في كل مكان, إنه اللوغوس أو العقل الأزلي. إنه معتقد ديني راسخ لديهم وجملة من الفلسفات الرئيسة في الحضارة اليونانية تتمركز حول هذا العقل. والحكمة عند كثير من فلاسفة اليونان وأوروبا عبارة عن معرفة الوجود المرتبط بالآلهة، بمعنى أنهم يؤمنون بعقيدة وحدة الوجود، أي أن الإله والكون شيء واحد. والعقل الإلهي (اللوجوس) هو مصدر الأشياء جميعا وجوهرها الماثل في كل مكان.

وحسب عقائد الفلاسفة فإن الإله يدبر أمر الكون ويسيره من داخله وليس من خارجه. ويترتب على الإيمان بعقيدة (العقل الإلهي) اليونانية إشكاليات عدة تلقي بظلالها على معتقداتهم بخصوص القضاء والقدر وحرية الإنسان ومسائل الخير والشر أو ما يعرف بالفلسفة الأخلاقية. وموقف الفقهاء العرب من العقل والطبيعيات واضح ولا يحتاج إلى توضيح. فالعقل البشري عندهم مخلوق محدود الإمكانات وليس قبسا إلهيا أو امتدادا للعقل الإلهي، فهم ينزهون الخالق عن عالم المخلوقات. وهنا نستطيع التعرف على الأسباب المؤدية لمناهضة العقل اليوناني والعلم الطبيعي اليوناني أو الطبيعيات كما يسميها الفقهاء العرب. وهذا لا يعني أنهم ضد العقل البشري أو عالم الطبيعة كما نعرفه اليوم. فعلم الطبيعة عند فلاسفة اليونان هو علم الأمور الإلهية المرتبطة بالموجودات الطبيعية، والعالم المادي عندهم مندمج بالعالم الإلهي. ولذلك قلنا بأن العقل الفقهي عند العرب أقرب للعلم الطبيعي أو التجريبي الحديث من علم فلاسفة اليونان. وهذا الأمر لم يشرحه نصر حامد أبو زيد. فهل كان يجهل طبيعة العقل اليوناني المشبع بالخرافات والأساطير؟

مناهضة العقل والمنطق اليونانيين عند كثير من الفقهاء العرب يعكس وعيهم الشديد بحقيقة الفلسفة باعتبارها حقلا لتأويل وتفسير المعتقدات الدينية، ويجعلنا نؤكد أن رفض فكرة العقل اليوناني دليل قاطع على وعيهم واطلاعهم الواسع على تراث اليونان ومعرفة تفاصيله وحيثياته. رفض الفقهاء العرب للفلسفة والعقل اليوناني هو في حقيقة الأمر رفض للخرافة والأسطورة والتفكير غير العقلاني المشبع بالأوهام.