يورد أبو حيان التوحيدي في كتاب «الإمتاع والمؤنسة» الحكاية التالية: وقف أعرابي على مجلس الأخفش، فسمع كلام أهله في النحو، وما يدخل معه. فحار وعجب، وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ قال: أراكم تتكلمون بكلامنا بما ليس في كلامنا.

يستخدم المفكر الراحل محمد عابد الجابري كلام هذا الأعرابي لينقد النحو العربي، وعد هذه الحكاية دليلا على أن النحو العربي قوالب عممها النحاة، وفرضوها قواعد وقوانين. وقد جعل هذا من اللغة العربية لغة مصطنعة بصورة مضاعفة، يعني بذلك وضع الأعراب والرواة من جهة، وصناعة اللغويين والنحاة من جهة ثانية. ويرى أنها لغة تنقل معها عالم الأعرابي، البدوي الفقير، في قوالب جامدة ذات نغمة موسيقية. وليس غريبا كما يقول إذا لاحظ المرء أن النغمة الموسيقية في اللغة العربية تعوض، أو تغطي فقر المعنى، وتجعل الكلام الذي يجر معه فائضا من الألفاظ ذا معنى حتى ولو يكن له معنى. إن الأذن هنا تنوب عن العقل في الرفض والقبول.

ومعروف في اللغة العربية أن الأذن هي التي «تستسيغ» وليس العقل.

قد تكون حكاية الأعرابي حقيقية، وقد يكون بناها نحوي على لسان أعرابي، وهذا ما أرجحه. لكن المهم هنا أن المرء يحار أمام فهم مفكر كبير كالجابري؛ فعبارة الأعرابي صحيحة. فهناك فرق بين اللغة وبين الحديث عن اللغة. وأبو حيان نفسه قبل أن يورد حكاية الأعرابي اعترف بأن الكلام عن الكلام صعب؛ لأن الكلام على الكلام يدور على نفسه، ويفسر بصعوبة الكلام عن الكلام بالنحو العربي. والفرق بين الكلام وبين الكلام عن الكلام هو الفرق بين الأعرابي وبين النحوي.

فالأعرابي يتكلم لكن النحوي يتكلم عن كلام الأعرابي. وحين يصف الأعرابي كلام النحويين بذلك الوصف فهو يمكننا من القول بأن فكرة الفرق بين النحو كعلم، وبين اللغة كموضوع لهذا العلم موجودة قبل أن تتضح في الفكر الحديث، لكنها موجودة في الفكر اللغوي العربي كملاحظة من دون أن تأخذ أي بعد يمكن تاريخه على أنه تصور لطبيعة العلم.

هذا الإحساس بالفرق العلم وموضوعة جعل أعرابيا آخر نقل التوحيدي وصفه النحو بالعجْمة، ولغويا، وآخر يرى نحو العرب فطرة، ونحو النحويين فطنة. وإذا ما فهمنا فطرة العربي على أنها (معرفة القدرة) أي المعرفة التي تمارس بها اللغة العربية (يعرف العربي كيف يتكلم) وفطنة النحوي على أنها (معرفة افتراضية) أي معرفة مجموعة من الافتراضات المتعلقة بممارسة اللغة، إذا فهمنا هذا الفرق فإن النحو سيختلف عن اللغة، أي اختلاف المعرفة الافتراضية عن معرفة القدرة، حيث تحتاج الأولى إلى قدرة فكرية أعلى.

لقد عبر هيجل بأن كل شيء يزيد بكثير عن حالته الفعلية؛ فالفكر مثلا أكثر من موضوعاته. لا ينظر الفكر إلى الأشياء كما هي، بل ينظر إليها من خلال إمكاناتها الكامنة، والتفكير من خلال ما هي عليه الأشياء بالفعل تشويه وتزييف؛ لأن الواقع يختلف عن التفكير في الواقع، ولغة الفكر زائدة عن لغة الواقع. وعلى هذه الخلفية أعني زيادة الفكر على موضوعه، نجد حلقة الاتصال بين فكر النحو النظري وبين اللغة، حين يكسر النحو سيطرة الواقع على الفكر، ويتحدث عن اللغة بلغة ليست هي لغة الناطقين باللغة.

من جهة أخرى لا يمكننا أن نغفل ما توحي به عبارة الأعرابي من تهكم، وهو تهكم يتجاهل أن النحو شأنه شأن أي علم آخر يحتاج إلى كلمات خاصة (مصطلحات)؛ إذ كيف يمكن لاكتشافات النحو الخاصة بنظام اللغة أن تصاغ من دون هذه الكلمات الجديدة؟ فالنحو تكوّن مجالا للبحث من خلال تناقضه مع مجال بحثه؛ أعني اللغة، وليس من خلال تشابهه مع اللغة. فاللغة اليومية ليس في حوزتها الكلمات المناسبة للدلالة على مجال اشتغال النحو، ولابد من كلمات غير موجودة أصلا في استخدام اللغة اليومي. فكلمة (فعل) في اللغة اليومية عمل الشيء وصنعه، أما في النحو فقد تحولت إلى المصطلح المعروف.

إننا نعرف الآن أن سيبويه وضع أغلب مصطلحات النحو، وقد اغتنت مصطلحاته وتوسعت بالتلازم مع فكره النحوي، وإذا كان سيبويه قد أظهر قدرة على ابتكار المصطلحات إلا أنه كان قليل الاهتمام لكي يصل بها إلى مستوى الإتقان (مثلا المصطلحات الطويلة).

لست متأكدا من دراسة هذا الجانب عند سيبويه، وهو التنظيم المفاهيمي للنحو؛ فمصطلحات سيبويه لم تولد فقط، بل يمكن أن يلقى بعضها حتفه، فتخرج من التداول بين الدراسين، لتفسح الطريق لغيرها من المصطلحات التي تستجيب للتوجهات الجديدة في البحث النحوي، ومع ذلك وكما أظن أن القسم الأكبر من مصطلحات سيبويه ما زالت صامدة إلى الآن.

هناك معاجم كثيرة للمصطلحات النحوية، وقد تصفحت بعضها، وفيما تصفحته أرى أن اكتفاءها بشرح المصطلح من دون النصوص يفقدها كثيرا من الأهمية.

فهي مثلا تتحدث عما يعنيه سيبويه بالمصطلح، لكنها لا تورد نص سيبويه. فضلا عن ذلك هناك فقر في تتبع تاريخ المصطلح إلى أن استقر بتتبع النصوص، والتفكير فيها، ومقارنتها مع نصوص أخرى.

لا أعرف ما إذا هناك معاجم مصطلحات نحوية من هذا النوع، ومع ذلك فإنني أعرف أنها تستحق أن توجد لا سيما في ضوء ثلاثة أبعاد هي البعد التاريخي (مراحل تطور المصطلح) والبعد البنيوي (علاقته بمفاهيم أخرى) والبعد الإشكالي (تحولات المفهوم).