كلما تجاوز المجتمع تحديات خطيرة، تراكمت فيه خبرة ومعرفة، يُفترض به متى تعامل معها بطريقة علمية أن يتجنب أخطارًا مشابهة، فضلًا عن وأد الأخطار القديمة إلى الأبد، لكن الضمانة لهذا أن يتعامل معها بطريقة علمية، وفق منهج دقيق، لا مكان فيه للتهويش بالعاطفة، فحينها نكون قد وسَّعنا دائرة الرصد والمتابعة، والوقاية، وتكون الأخطار عبر جزئياتها الضخمة تحولت إلى نتائج معرفية، كشفت عن هندستها ولم يعد المجتمع يجابه ما مجاله الغموض، والمبالغة أو التصغير، وبهذا يمكن توريث النتائج للأجيال القادمة، فتتسع ذاكرة المجتمع، ويكون عمل الأبناء بالبناء على ما سبق، وتوسيعه وزيادته.

فالمنهج العلمي في الأمن الفكري يعطي نتائج أوسع من الجانب الأمني المجرد، وذلك أنّ الدعاية المضادة تسلك طريقًا دعائيًا لها، وأهم قسم في دعايتها (الأيدلوجيا) هذه (المنظومة الفكرية) التي تشكل قناعات أنصارها، تختلف من حين لآخر، من قالب لآخر أحيانًا، لكنها تحتفظ بالبنية ذاتها التي تشكل (عمادًا) للتكتلات المعادية، هذه الأيدلوجيا متى أمكن تتبعها، ومعرفة المراكز التي تبثها، أمكن بذلك كشف (الدعم اللوجستي الفكري) للعناصر النشطة المعلنة للعداء، إنه بمثابة معرفة المحرّك الأساسي لها، على صعيد التنظير، وكم ممن نشط في جانب الدعاية المضادة للوطن، دون سجل أمني سابق، لكن الأيدلوجيا التي يرددها تكشف ما تحتها، والتعامل معها بطريقة علمية، يسمح بتوسيع دائرة المتابعة، والرد المقابل على تلك الأيدلوجيات بتفكيكها، وإقامة البدائل الوطنية عنها.

وجانب الأمن الفكري ضرورة كتبتُ فيه من قبلُ، فيستدعي وقفة جادّة، وأهلية عالية اجتهد فيها أهلها قصارى أمرهم حتى يقوا مجتمعاتهم مختلف الأخطار، لا مجال فيه لأن يكون عتاد المتصدّر معلومات منثورة وقد تكون مدخلاته متناقضة، دون منهج استقصائي واضح، ولا إطار تفسيري جامع، يزاحم باقي الأطر التفسيرية ويتغلب عليها، وينهي بحثه بكلمات عامة، بعيدة عن العلم ومنهجه، وحتى يكون الكلام أوضح، أذكر أمثلة على هذا، فقد عرف العالَم من قبل في (القرن التاسع عشر) وبداية (القرن العشرين)، أطروحات (فوضوية/ثورية)، وتنظيمات متعددة، وكان أهمها ما نتج عن التيارات الاشتراكية، التي عملت على عدة خطوات في مسيرتها الحزبية، عددها (فريدريك هايك):

استهداف الأطفال لضمهم إلى منظمة سياسية.

تنظيم الألعاب الرياضية، كرة القدم، الكشافة، في نادٍ حزبي.

تمييز أعضاء الحزب عن الآخرين بتحية خاصة، وشكل معيّن في الخطاب.

الإشراف على الحياة الخاصة للأعضاء، بما يبقي (شمولية) الحزب.

وقد انتقلت هذه الصيغ الحركية إلى (الفاشية) في إيطاليا، وعنها إلى (الحزب النازي) وهو الحزب القومي الاشتراكي في ألمانيا، وعن طريق خطاباته القومية، كانت المنطقة العربية قد أصابتها العدوى، وبالمناسبة كانت الدعاية القومية الألمانية حينها قد خصصت إذاعة باللغة العربية، وبثت منشوراتها المعرّبة في العديد من المناطق العربية في الثلاثينات، والأربعينات، فعملت الأحزاب القومية وفق هذا النموذج، مع وجود تيارات يسارية نشطة في الجامعات، والحياة السياسية كذلك في العديد من المناطق العربية، وورثت هذه الصيغ التيارات التي تنتسب في عملها -زورًا- إلى الإسلام، قُدمت في هذا عدة دراسات منها دراسات أوليفيه راوا فضلًا عن اعترافات قادتهم، وتنقلاتهم الفكرية المرصودة.

هذا الخط الذي يمكن رصده بطريقة علمية، مهما بدلت الأيدلوجيا الفوضوية من جلدها، من الحديث في الاقتصاد، إلى القومية، إلى الدين، فإنَّ خطواتها واحدة، والأساس الذي بقي فيها واحدًا، ودون منهج علمي فإنَّ الأيدلوجيا المعادية ما عليها إلا تغيير اسمها فقط، حتى يقع العديد من المنشغلين بالأمن الفكري دون أهلية حقيقية في التيه، إذ يكونون حينئذٍ قد برمجوا أنفسهم على لون واحد، وأضحى ما يقولونه ترديد محفوظات، ودوران في أروقة بيروقراطية رتيبة، لا يعبّرون عن فكر إبداعي، ولا منهج علمي في مواجهة التحديات.

فمن أساسيات المنهج العلمي أنّه يمكن تطبيقه على مختلف الظواهر، وبهذا يمكن فهم الظواهر، والسيطرة عليها، فتضيق فيه الخطابة لصالح الاتساع للبرهنة، مع التقدير الأساسي للانتماء الوطني، فكما قال آينشتاين: (العلم يمكنه صنع قنبلة ذرية، لكنه لا يحدثنا كيف نستعملها)، فبالعلم يمكننا أن نرصد ظواهر الأحزاب الفوضوية، والدعاية المضادة، دون أن يقول لنا إلى أي جهة ننحاز، وهنا يأتي انتماؤنا الوطني، ومعرفة قدر ما يمنحه لنا المنهج العلمي من قوّة، وما لنتائجه من أثر، يتحتم علينا سلوك هذا الطريق، لا جعله مجالًا رحبًا للكلمة الحسنة من متعاطف فحسب، بل منهج متكامل، وخبرة متراكمة منظمة من مؤهلين في هذا المجال.