اقتحمت وسائل التواصل حياة إنسان هذا العصر، وأصبح يمتلك محطة إعلامية مصغرة ومتنقلة، يكتب، يصور، يذيع ما يشاء، ويبث عبر مساحة واسعة كانت تحلم بها في الماضي مؤسسات صحفية، ومحطات إذاعية ومرئية.

وشكل القادم الجديد بيئة حاضنة لسيول من التغريدات والمقاطع «لهجة الصدق والإبداع فيها كبياض في غراب»، كما قال الشاعر الجواهري، وليت أولئك الكتبة المغردون يطبقون اليوم ما قاله أحد الزعماء منذ أكثر من قرنين: «إما أن تكتب شيئا يستحق القراءة أو تفعل شيئا يستحق الكتابة».

وأتعجب من الناس الذين انجرفوا، بعد تقاعدهم، إلى بحور الإعلام الجديد بمراكب قديمة من نوع «كنا وعملنا»، وأضافوا لأسمائهم ألقاب «مستشار سابق - عضو لجنة - مدير عام سابق - مشرف سابق - خبير سابق - إعلامي سابق...».

لا أعلم من أقنعهم أن التقاعد يعني البحث عن بقعة ضوء، يبقون في دائرتها على حساب صحتهم، وراحتهم، وإهدار أوقاتهم، والخوض مع الخائضين في أمور لا تعنيهم ولاتُفيدهم؟ّ!.

يتساءل الدكتور إسماعيل عرفة في كتابه «الهشاشة النفسية»: هل يدرك الإنسان اليوم الأثر السلبي لـ«السوشيال ميديا» على صحته النفسية؟، معددا خمسا من النقاط تسهم في الهشاشة النفسية كنتيحة حتمية لإدمان تلك التطبيقات، وهي «تعزيز النرجسية - تقديس التغيير السلبي - فقدان التركيز - الخلل في معايير النجاح - أفكار من ورق».

وأعتقد أن التقاعد هو الوفاء للوطن من خلال القدوة الحسنة، والتطلع إلى الأمام، والعطاء الصادق المخلص، والإحساس الجميل بالآخرين، وإعطاء الفرصة للأجيال، والإسهام في أعمال الخير، والتطوع، وصناعة الأفكار الإيجابية.

ويا حسرتي على المهرفين الذين يُعَرفهم القاموس بأنهم من يخَلطون الكلام، ويهرفون بما لا يعرفون، وإذا كنا نتفق على أن التطبيقات الجديدة جاءت مواكبة لعصرنا الرقمي، وسرعت من وتيرة الحياة، وكشفت عن جيل جديد من الموهوبين، من أبنائنا وبناتنا، في هذا العهد الزاهر، منحهم الله الذكاء والإبداع، ومعرفة خفايا وأسرار التقنية، وهذا لا يعني أنني أنتقص -لا سمح الله- من حق الرواد الرموز في المجالات كافة، ومنهم أهل الأدب والثقافة والفنون والإعلام والفكر والإدارة، وحُماة الديار الذين سيبقون ينابيع تروي إخضرار أيامنا القادمة بحول الله.

وإذا كان الخروج المفاجئ لـ«مارد» أدوات التطبيق من قمقم معامل الذكاء الإصطناعي أدى إلى فرض واقع جديد، وسحب البساط من تحت وسائل إعلام تقليدية، وأستعجل رحيل بعض الصحف الورقية والقنوات المرئية والإذاعية الخاصة من الساحة نهائيا بسبب المعلنين وضعف المحتوى، فلماذا لا يغادر طواعية كل من يسيئون إلى أنفسهم ووطنهم وأمتهم من حيث لا يدرون، خاصة ممن أصبحوا عالة على مواقع التواصل بسبب ضحالة ما يهرفون به كل يوم من على منصاتهم، فيُريحون ويستريحون؟.