في طفولة تكوين ثقافتنا الأولى.. يوم كنا نقرأ بدهشة للكتّاب والمفكرين والشعراء تلالا وهضابا من الأوهام الزرقاء، سوف تنحسر فيما بعد وتتلاشى، تاركة في أعماقنا القديمة كثيرا من المرارة والشجن.

ففي البدايات، وقبل أن نتعرف على هؤلاء الكتّاب، ونحاورهم، ونتماس بهم، كنا نعتقد أنهم طليعة الأمة حقا، وضوؤها الذي ينير لنا الظلمات، وأن حياتهم وسلوكهم في المجتمع يتسقان ويتطابقان مع كتاباتهم، ونتوهم، كما علمونا في المدارس، أنهم الشموع التي تحترق، ليتوهج النور.

ومن خلال أوهامنا الطفلية، كنا نتصورهم يعيشون حياتهم بين المكتبات ودور الثقافة ومتاحف المخطوطات، ينهلون العلم، ويزدادون معرفة، دأبهم في ذلك دأب الفلاح في أرضه، والعامل في معمله.

في تلك الأزمنة تشكّلت في أذهاننا صور مزدهية، نقية، زاخرة بالاحترام والإجلال لهؤلاء المثقفين الذين ترعرعنا في حدائق كلماتهم.. اقترنوا في أعماقنا بالأمثولات المجيدة والشجاعة والمضيئة في تاريخنا، منهم استضأنا بالوعي، فحوّلنا الوعي إلى فعل حياة ساعدنا على مجابهة المصاعب والشدائد والطغيان والزيف وفقدان التوازن وظلام الجهالة والتخلف.

لم يخطر ببالنا يوما أن هؤلاء الكتّاب والمثقفين يعيشون حياة عادية كسائر الناس، أو أن في حياتهم لوثات أو انحدارات أو سقطات، ذلك لأن نضالهم الدءوب من أجل المعرفة، وصراعهم الدائم من أجل الخلق المتوهج، وتجاربهم ومغامراتهم وكفاحهم، كانت سجلا حافلا بكل ما هو عظيم ومضيء وخلاق من أجل الانسان.

ولأمر ما من خلال كتبهم وكلماتهم التراجيدية والمعادية لكل ما هو منحط ودميم في العالم، كنا نتصورهم (الطليعيين خاصة) قبضة من المكافحين التعساء، المشردين الفقراء الذين لا يخشون، قولا وفعلا، في الحق لومة لائم، ولو كلفهم ذلك حياتهم.

ولأمر ما أيضا، استنباطا من كتاباتهم، كنا نراهم من خلال تخيلاتنا يجوبون الأرض على نمط صعاليك العرب: عروة والشنفرى والسليك وتأبط شرا، تؤويهم سماء عارية وأرض عارية، أو يبيتون في بيوت فقيرة، يقسمون جسومهم في جسوم كثيرة، لا يملكون شروى نقير، يعملون في أوقات الشدة والضنك في الحقول، أو يغسلون الصحون في المطاعم، أو يصححون الأخطاء في المطابع، أو يدرسون الفقراء في الأرياف أو أحياء المدن البائسة، أو يشتغلون على السفن، وفي محطات القطارات عندما تعصف بهم غوائل الجوع، والشوق المجنون إلى اكتشاف تجارب الحياة المرة والقاسية.

وفي رأسنا كانت كفاحات «غوركي»، وعذابات «دوستويفسكي»، وشقاءات «ناظم حكمت»، وفقر «ماركس»، وموت «لوركا».. هكذا كنا نعتقد أن مثقفينا العرب يعيشون.

غير أننا بعد النمو، والتعرف على حياة هؤلاء المثقفين (عدا حفنة ضئيلة وصادقة قولا وممارسة) سنكتشف لا خيبتنا وأوهامنا بهم، إنما خجلنا منهم.

سنكتشف التناقض والتعارض المطلقين بين ما يكتبون وبين ما يعيشون، وإنهم لسنوات طويلة كذبوا علينا، وغدروا بنا، وارتفعوا على أشجار، وهمنا جوابي حقيقة، وهم ليسوا أكثر من نخبة رديئة من الأفاقين والباعة والانتهازيين والمرتزقة والبورجوازيين الرثين، وإنهم من حواريي «مسيلمة الكذاب»، ومن سيافي «الحجاج» و«أبي العباس» السفاح، ومداحي «المتوكل».

هؤلاء الأفاقون يجوبون بلاد العرب لا كالصعاليك الجياع والمنبوذين، إنما كتجار مصر وخراسان وسمرقند وبخارى والبصرة، يحملون بضائعهم وتوابلهم وحريرهم المغشوش، ليعرضوها في أسواق المشرق والمغرب، من بغداد إلى فاس إلى بيروت إلى تونس إلى لندن وباريس وقبرص.

قصائد للبيع.. دراسات فكرية للمزاد.. قصص وروايات للبورصة.. تحليل وأفكار.

المثقفون العرب «الباعة» يجتاحون السوق ببضائع للأجيال العربية الناهضة، والجماهير العربية «الغفورة».

عقول وأذهان ورءوس.. هي كل ما تبقى من الضوء في ليل الكوكب العربي المعتم، توضع اختيارا تحت الخدمة الوضيعة لتدمير الأمة.

يراكمون الأرصدة كأي كومبرادور رخيص وتابع في المصارف الأجنبية، ويبدلون السيارات كل عام، ويؤثثون المنازل بأحدث الطرز كأي محدث نعمة أو سلطة، ويشترون أحدث بضائع الاستهلاك، الأمريكية أو اليابانية،

كأي سائح مغفل في جيبه بئر مال.

هؤلاء، إذن، هم مثقفو عصر الظلمات والانحطاط الفوقي، لكن الجهة الأخرى من الكوكب، على الرغم من صغر جغرافيتها، تضيء.. تضيء بالذين لا يزال بإمكانهم مواجهة الإغراءات والانتهازية والتشرد والفقر، وشقاءات الأزمنة الصعبة.

إن هؤلاء الشهود الأحياء في المنافي و... والاختيارات القاسية يظلون المنارات، وصرخة الروح، وقيامة الشجر.

1981*

* كاتب وروائي سوري «1936 - 2023»