استعدوا للإبحار في رحلة من قلب نسيج الواقع؛ قصتان ليستا من تراثنا أو تاريخنا، وتاريخنا يزخر بالقصص البطولية والعبر التي تزين كتبنا ومكتباتنا، لكن ارتأيت اليوم أن أشارككم ما قرأته مؤخرًا من تراث آخر، عن الشجاعة في اتخاذ القرار الصعب عند الحاجة. قد يبدو أن هاتين القصتين غير مرتبطتين، لكنكم ستندهشون من الالتواء الذي يربط بينهما، لذا فلنسترخي ونفتح آفاق الإدراك لدينا لنستخرج العبرة الرئيسة؛ التي أتوقع وبكل ثقة بأنكم سوف تصلون إليها.

أحداث القصة الأولى: منذ عدة سنوات، امتلك «آل كابوني» جل مناطق شيكاجو، لم يكن «كابوني» مشهورًا بأي شيء بطولي، بل على العكس كان مجرمًا منخرطًا في كل عمل شيطاني من الخمور المهربة والدعارة والابتزاز والرشوة والتزوير إلى الاختطاف والقتل! كان لديه محام خاص يلقب بــــــــ«إيزي إيدي» والذي كان محاميًا فذًا، حتى أن مهارة «إيدي» في المناورة القانونية أسهمت بشكل كبير في إبقاء «آل» خارج أسوار السجن لفترة طويلة. ولإظهار تقديره، أغدق «آل» عليه الأموال والهدايا من كل نفيس وغالٍ؛ فعلى سبيل المثال، سكن هو وعائلته قصرًا ضخمًا مجهزًا بجميع وسائل الراحة من ضمنها تكاليف إدارة المنزل والخدم. لقد عاش الحياة المرفهة لعصابة شيكاغو ولم يعط أي اهتمام للفظائع التي كانت تدور من حوله بسبب جرائم سيده.

لكن كان لدى «إيدي» نقطة مضيئة في حياته؛ ابن يحبه كثيرًا، وكان يحرص على أن يكون محاطًا بكل مظاهر الرفاهية من ملابس وسيارات وتعليم راقٍ، لا شيء يغلى على فلذة كبده، ولكن بالرغم من تورطه في الجريمة المنظمة، حاول «إيدي» تعليم ابنه الصواب من الخطأ، أراد أن يكون ابنه رجلًا أفضل منه، ومع ذلك، رغم كل ثروته ونفوذه، كان هناك شيئان لم يستطع منحهما لابنه؛ لم يستطع تقديم له سيرة أسرة كريمة ليرثها أو مثال جيد يحتذى به.

وبعد صراع مرير مع الذات، توصل إلى قرار سوف يساعده في تصحيح الأخطاء التي اقترفها، لقد قرر أن يذهب إلى السلطات ويشهد ضد «آل كابوني»، وبهذا ينظف اسمه الملطخ وبالتالي يقدم لابنه بعض مظاهر النزاهة ليقتدي بها، وبالرغم من أنه كان يعلم مسبقًا أن التكلفة سوف تكون كبيرة، تقدم وأدلى بشهادته.

لم يمض عام إلا وانتهت حياته؛ فلقد تم إطلاق النار عليه في إحدى شوارع شيكاجو المنزوية، لكنه كان قد أعطى ابنه أعظم هدية كان عليه أن يقدمها، بأعلى سعر يمكن أن يدفعه؛ حياته، وعند اكتشاف جثته، وجدت الشرطة في جيوبه مسبحة وميدالية وأيقونة دينية وقصيدة مقتطعة من مجلة بعنوان «ساعة الحياة» لـ «روبرت سمث».

تدور أحداث القصة الثانية خلال الحرب العالمية الثانية؛ كان الملازم أول «بوتش أوهير» طيارًا مقاتلًا تابع لحاملة الطائرات «ليكسينجتون» في جنوب المحيط الهادئ، وذات يوم تم إرسال سربه بأكمله في مهمة، وبعد أن أصبح في الجو، نظر إلى مقياس الوقود وأدرك أن شخصًا ما قد نسي تعبئة خزان وقود الطائرة، وعليه لم يكن لديه ما يكفي من الوقود لإكمال مهمته والعودة إلى الناقلة، فأمره قائد السرب بالعودة، وعلى مضض، انسحب من التشكيل وعاد إلى الناقلة. لكن أثناء عودته، رأى شيئًا جمد الدم في عروقه؛ سرب من الطائرات اليابانية كان يسارع في طريقه نحو الأسطول الشبه أعزل. المشكلة أنه لن يتمكن من الوصول إلى سربه وإعادتهم في الوقت المناسب لإنقاذ الأسطول، ولا يمكنه تحذير الأسطول من اقتراب الخطر، ولذا كان هناك شيء واحد فقط يمكن القيام به: بطريقة ما كان عليه أن يصرفهم عن الأسطول. متخليًا عن كل ما يعيقه مثل التفكير بأمنه وحياته، هاجم واشتبك مع تشكيل الطائرات اليابانية، اشتعلت النيران في جناح طائرته ولكنه لم يتوقف وأطلق النار على أكبر عدد ممكن من الطائرات حتى نفدت كل ذخيرته، فانتقل بعدها إلى الهجوم مستخدما طائرته للانقضاض على طائرات العدو، محاولًا قص جناح هنا أو ذيلًا هناك على أمل إلحاق الضرر بأكبر عدد ممكن من الطائرات، وأخيرًا، تراجع السرب الياباني وانطلق في اتجاه آخر.

وبارتياح عميق، عاد «بوتش» ومقاتلته الممزقة إلى الناقلة، وعند وصوله، قام بالإبلاغ عما حدث، وبمراجعة مقطع الكاميرا المثبتة على طائرته أظهر المقطع مدى بسالته ومناوراته الجريئة لحماية أسطوله؛ لقد دمر خمس طائرات معادية، ونتيجة لتضحيته أعتمد كطيار أول للبحرية، وكان أول طيار بحري يفوز بميدالية الشرف. وبعد مرور عام، قُتل «بوتش» في معركة جوية وهو لم يتجاوز التاسعة والعشرون من عمره. لم تسمح بلدته بأن تتلاشى ذكرى بطلها وتم تسمية «مطار أوهير» في شيكاغو تكريمًا لشجاعته وتضحيته.

الآن، ما العلاقة بين هاتين القصتين؟ «بوتش أوهير» هو ابن «إيدي»، الرجل نفسه الذي دفع حياته ثمنًا لتصحيح مساره لتوفير مستقبل أفضل لابنه! والآن أترك لكم استنتاج العبرة مما سبق.

كلمة أخيرة: يمكننا أن نخلق أجمل وأروع بيئة لأبنائنا، ولكن بدون قلب صافٍ وضمير حي، نتركهم غبارًا يقطن قصورًا من ورق!