الحضارة العربية تتسم بصفة الاستمرار والمقدرة الخارقة على البقاء، على الرغم من جميع ظروف التخلف والجمود.

عندما نتحدث عن الحضارة فإن المعنى يشمل آثار الإنسان في مجموعة بشرية معينة نطلق عليها اسم الأمة، فالحضارة عطاء قومي له شخصية وطابع الأمة التي ينتسب إليها، سواء أكان هذا العطاء معماريا أو تشكيليا أو فكريا أو عقائديا.

إن حصيلة هذا العطاء عبر العصور أو عبر الحضارات المتعاقبة يشكل ما يسمى بالتراث، وعلى اختلاف الظروف التاريخية واختلاف التأثيرات الطارئة التي تسببها التحولات السياسية فإن هذا التراث يرتبط برباط قوي بمعنى الأمة. بل إن خصائص الأمة وشخصيتها أصبحت تعرف من خلال مفردات هذا التراث الذي يتجلى على سطح أو باطن رقعة معينة من أرض كانت في فترة معينة مهدا لأمة من الأمم.

ولسنا من القائلين بالتفوق العنصري لأية أمة من الأمم، ولكن لا بد من القول بأن لكل أمة خصائص متميزة تتجلى في تاريخها وحضارتها، وتتركب شخصية كل أمة ليس من التكوين العرقي لأفرادها، بل من مجمل عطاءات هذه الأمة وعقائدها، فالدين والفن والعلوم والسياسة والتركيب الاجتماعي هي صورة الأمة المشخصة. ومن هنا كان التلازم قويا بين الأمة والحضارة، فالأمة قوية وعظيمة ليس بنقاوة سلالاتها، ولكن باتساع وعمق حضارتها، وثبات هذه الحضارة، فلقد كانت الحضارة المصرية عظيمة لأن الطبيعة والإنسان اندمجا في صورة خالدة تجسدت في أوابد راسخة تتحدى الفناء ... وكانت الحضارة الرافدية والسورية خالدة لأنها مستمدة من قوة الإنسان المؤمن بالمستقبل المتمثل بالآلهة السماوية ..

أما الحضارة الإفريقية والرومانية فلقد كانت عظيمة بمقدار ما كان السبب عظيما، فهي نتيجة دائمة للسؤال الفلسفي والبحث المنطقي أو نتيجة للرخاء المادي، ولقد زالت بزوال الأسباب العارضة، وإذا استمر شكلها فلأن ورثة الفكر الإفريقي كانوا يبحثون عن ملجأ لأفكارهم المكرورة والموروثة عن سابقيهم. وهكذا فإن الحضارة العربية قد خضعت لفكرة المصير وليس لمبدأ العلية، وليست فكرة المصير بعيدة عن مفهوم الحضارة في العصر الحديث، بل هي تأخذ شكلا أكثر وضوحا، ذلك أن المصير بتفسيره الحديث هو وحدة الفرد مع الكون. أي أن المصير ليس الكون كما هو، بل هو كما يمكن أن يكون بفعل الإنسان، لذلك فإن المصير هو عمل إبداعي مستمر، وبهذا المعنى يمكن أن تفسر الحضارات والحضارة العربية بصورة خاصة، والتي قامت على موقف الإنسان من الكون وما وراء الكون، وعلى التعامل مع هذا الكون عن طريق الحدس والروح، وليس عن طريق المنطق الرياضي والقوانين العلية، إنه يتعامل مع الكون على أساس أن الفرد هو جوهر الكون لأن الفرد هو الزمان، وكل ما عداه هو المكان أو ما يقرب من المكان، حتى الحيوان فإنه يخرج عن معنى الزمان لأنه لا يدرك دوره في الحياة، ومع ذلك فإن الإنسان يخشى ويهاب الزمان الحقيقي، والزمان بذاته، لأنه العلامة الوحيدة لتجاوز المقدرة البشرية، ولذلك فإن الإنسان يسعى وراء المثل الأعلى المتجسد بمفهوم الرب، لكي يتخطى تحدي الزمان. ونستطيع القول إن الحضارة العربية منذ نشوئها في بلاد الرافدين وحتى اليوم إنما ترتبط بمثل أعلى، أو بمعنى آخر، هي من صنع الإنسان الذي يسعى وراء المثل الأعلى الذي يتصوره من خلال الإله في السماء، والذي يسمو على كل قوة وإرادة. وهو فوق الزمان والمكان، وعلى ذلك فإن المصير ذاته مرتبط بالله أي بالمثل الأعلى، والإنسان في الحضارة العربية ما هو إلا القوة التي تنفذ إرادة الله، ولأن الله قوة سرمدية خالدة غير قابلة للفناء والضعف، فإننا نرى الحضارة العربية تتسم بصفة الاستمرار والمقدرة الخارقة على البقاء، على الرغم من جميع ظروف التخلف والجمود، ويكفي أن تكون هذه الحضارة أقدم حضارة وجدت على الأرض، وأطول الحضارات عمرا، وأقدرها على التغلب على عوامل الانحطاط والاندثار.

ومن حسن حظ الأمة العربية أنها تحتفظ بتراث حضاري كشفت عنه الآثار المعروفة أقل ما يقال فيه إنه يمتاز عن غيره.

أولا بالأصالة، حيث تمتاز الحضارة العربية بارتباطها بأمة أصيلة ما زالت قائمة حتى اليوم ومنذ بداية التاريخ، محتفظة بخصائصها وتقاليدها وعقائدها ولفتها وبملامحها العرقية.

1979*

* مؤرخ وفنان تشكيلي وأكاديمي سوري «1928 - 2017»