كان العلماء يقسمون الناس إلى جملة شعوب تبعاً لألوانها المختلفة، أما الآن فالرأي السائد يقول بتقسيم سكان هذه الأرض إلى شعبين اثنين أحدهما مستدير الرأس وهو الشعب المغولي وأكثر انتشاره في آسيا، ومنه الشعوب القديمة في أمريكا وأستراليا. وثاني هذين الشعبين هو المستطيل الرأس أي الآري وأكثر انتشاره في أوروبا وإفريقيا وأمريكا الحديثة.

والذي حدا بهم إلى هذا التقسيم هو ما استقروا عليه مؤخراً من عدم التعويل على اللون لقلة ثباته باعتباره سمة بشرية. لأن البشرة الإنسانية سريعة التأثر بالضوء، تكتسب اللون منه بمقدار اشتداده وتفقده بمقدار ضعفه. فالصينيون الذين يعيشون في شمال بلاد الصين بيض لا يقل بياض لونهم عما هو عند الأوروبيين، ومع ذلك فهم مغول قد استوفت فيهم شروط المغولية من استدارة الرأس واستقامة الشعر الخ.

وقد استعمر الوندال وهم قبيلة ألمانية شمال إفريقيا ثم أجلاهم السكان عنها فنزحوا إلى الجنوب وامتزجوا بقبائل البوشمان السود، ولا تزال بين البوشمان ألفاظ ألمانية تدل على امتزاج الوندال بهم، ولكن لم يترك المناخ الإفريقي من بياض بشرتهم القديم أثراً يدل على ما كان عليه سابقاً.

فاللون يتأثر من المناخ ولا عبرة به لذلك في تقسيم الشعوب، وإنما المعول الآن على شكل الرأس، فهو إما مستدير أو مستطيل، لأن عظم الرأس لا يتأثر بالمناخ، وربما كان الشعر من حيث النسيج لا من حيث اللون سمة إنسانية تلي الرأس أهمية في تقسيم الشعوب، فشعر المغولي مستقيم لا يتموج ولا يتجعد بخلاف الشعر الآري فإنه يتموج بل يتجعد أحياناً، ووجود رؤوس مستديرة في أوربا لا يعني في صحة هذا التقسيم. لأنه وإن كان وطن المغول آسيا ووطن الآريين أوروبا إلا أن تعدد المهاجرات قديماً بين آسيا وأوروبا من كل من الآريين والمغول أمر قد أثبته التاريخ. فالمجر مثلاً مغول يسكنون أوروبا والفرس والهنود آريون يسكنون آسیا، وبین الأفغان رشاش من الرؤوس المستطيلة كما بين الأوروبيين - خصوصاً في الجنوب - فاذا نظرنا إلى الساميين على وجه العموم وجدناهم مستديري الرؤوس لا قماحد لهم (جمع قمحدوة وهي الهنة الناشزة فوق القفا وأعلى القذال خلف الأذنين ومؤخر القذال) وهذا فضلاً عن استقامة شعورهم إذ هي لا تتموج ولا تتجعد، ولا يمكن أن ننكر أن السوريين قد امتزجوا قليلاً بالأوروبيين أيام الدولة الرومانية فإن (الأمميين) الذين ذكروا في الإنجيل والذين كان يقصد بهم جميع من لم يدن باليهودية لم يكونوا كلهم ساميين بل كان منهم أغراب كانوا على الأرجح آريين. ناهيك بتأثير الحروب الصليبية فإنها كانت عاملاً مهما في تلقيح الدم السوري بالدم الأوروبي. على أن هذا الامتزاج لم يغير شكل الرأس السوري، فهو هو كما كان أيام الفراعنة. ومن هنا يمكن تعليل الشبه الموجود بين الوجه السوري والوجه الأوروبي الجنوبي، الوجه السوري واستعداد السوري لقبول تمدن جنوب أوروبا. والرأس العربي أقل استدارة من الرأس السوري، ولكن الشعر لا يزال مستقيما، وليس للعربي قمحدوة تذكر، والأغلب على الظن أن العرب قد اختلطوا في زمن ما بالأحباش.

يتبين من ذلك أن شكل الرأس شاهد أثنولوجي على أصل الساميين المغولي لا يمكن إهماله أو عدم الاعتداد به.

وهناك شواهد أخرى أقل أهمية وأكثر تعرضاً للخطأ إذا اعتبرناها مفردة شاهداً بعد آخر، أما إذا اتفقت كلها على قرار واحد كان لنا منها برهان ترجيحي على ما نثبته.

فمن ذلك أن اللغات السامية ومنها اللغة العربية لا تمت بصلة ما إلى اللغات الآرية، فجميع ألفاظها مثلثة، وهي في ذلك تشابه اللغات المغولية. ولا نزاع في أن جهلنا هذه اللغات يوقفنا موقف الشك في معرفة أصلها. ولكن أليس من الغريب أن نشترك نحن واليابانيون وهم أقصي أمة مغولية بالنسبة إلينا في ضمير (أنت)؟

وهل يقنعنا القول بأن الصدفة هي أصل هذا الاشتراك.

وإذا اعتبرنا العادات الشائعة بين المغول وبين العرب وجدنا أنهما يشتركان في عادتين لا يمكن لنا تأويلهما بعامل الصدفة، فالمادة الأولى هي انحطاط شأن المرأة انحطاطاً لا يمكن إنكاره ولا مثيل له عند الآريين. ويكفي أن تعرف الحجاب عند العرب ووأدهم البنات وقصر المرأة في الصين على الاحتذاء بأحذية من خشب أو حديد لتمنع نمو قدميها، ومركز المرأة الحاضرة في اليابان على الرغم من تقدم هذه الأمة.

والعادة الثانية هي الحداد على الموتى بلبس الملابس البيضاء عند قدماء العرب، وبقاء هذه العادة عند الصينيين إلى الآن.

ثم إذا اعتبرنا القصص القديمة في الأساطير الدينية وجدنا منها ما يدعم دعوانا في أصل الساميين المغولي.

فالقصة الشهيرة التي نشرها الساميون في العالم - قصة آدم وحواء ـ هي في الواقع أسطورة آسيوية لم يعرفها الآريون مع أن المغول عرفوها قديماً. ولا تزال لفظة حواء عند سكان جزر بولينيزيا في الجنوب الشرقي من آسيا تدل على معنى المرأة أو الضلع، والتوراة تثبت أن حواء كانت قبلا ضلعاً من ضلوع آدم.

فبقاء اللفظة بهذين المعنيين في جزر بولينيزيا مع أنه ليس لها غير معنى واحد - معنى المرأة أم البشر - في اللغات السامية يدل على أن هذه القصة نبتت بين شعب مغولي.

فهذه الشواهد أي العادات واللغات والأساطير تقدم لنا دليلا ترجيحياً على اشتراك الساميين والمغول في أصل واحد - ناهيك بالشاهد الأثنولوجي الأكبر وهو استدارة الرأس، فإن هذه الاستدارة تقطع باشتراك الأصل هذا، وإني أدعو الكتاب إلى بحث هذا الموضوع، فعسى أن يتحفونا بآرائهم على صفحات الهلال.

1921*

*كاتب مصري «1887 - 1958».