إن الحجة الوحيدة القائمة ضد القبعة هي كلمة (الشعار القومي) وأغلب المصريين مفتون بهذه الكلمة. وأغلب المصريين ما زال يعتقد أن من المفاخر أن يتميز بلباس خاص. شعب صغير لم يستكمل حضارته عن بقية شعوب الأرض القوية المتحضرة. وقليل من المصريين من يرى من المساخر أن يتمسك رجل أو رجلان بلباس أحمر فاقع صارخ بين مئات وألوف من الرجال المحترمين المتحدين في زي معروف. لقد لاحظ بحق أحد المفكرين في أثناء سياحة طويلة له في آسيا وإفريقيا، أن الشعوب المنحطة هي أكثر تمسكا بتقاليد الزي وأكثرها حبا في التمييز عن غيرها من الأمم بأردية صارخة الألوان. وأرد أنا على هذا المفكر بقولي إن فكرة التميز بشعار وزي خاص ليست فقط فكرة «بربرية» في عصرنا الحاضر ولكنها تدل كذلك على ضعف الإدراك في أمة من الأمم. فإن من علامات الإدراك الضعيف عدم اتباع أفقه للأفكار الإنسانية. ولا ريب عندي الآن أن خوفنا وترددنا في مسألة كمسألة الطربوش والقبعة وتشدق الكثيرين بكلمة «القومية» سببه الوحيد أننا لم نزل في حالة «عزلة ذهنية» لا أكثر ولا أقل. فنحن في الواقع لم نتصل حتى الآن بالعالم المتحضر اتصالا يشعره بوجودنا ويشعرنا أننا جزء منه. فنحن في حقيقة الأمر شعب صغير لا وجود له الآن على خريطة الفكر الإنساني المتحضر. إنما نحن زراع وخدام وعبيد يعيشون على هامش الحضارة يخدمون المصالح المالية الأجنبية التي قبضت على وادي النيل منذ عشرات من الأعوام. هذا كل دورنا الذي نلعبه الآن.

فنحن لم نقدم للعالم ما يدله على مساهمتنا في التقدم الإنساني، لأن الفكرة الإنسانية نفسها بعيدة عن ذهنيتنا. إننا لا تفكر إلا في أنفسنا وفي حياتنا الصغيرة وما يحيط بها من عوائد بالية ومعتقدات قديمة وتقاليد عتيقة. إن العالم المتحضر لا يهمه أن يعرف عنا شيئا. لأنه ليس عندنا ما يستحق أن يعرفه العالم المتحضر. ولأننا لا نفكر مطلقا في هذا العالم المتحضر. إنما نحن نعيش كفصيلة من الدواجن وكفى.

إني لا أقول إن لبسنا القديم سيأتي بالأعاجيب وسيغير هذا الموقف، كلا مطلقا. إنما أقول وأصر على القول إن ما رأيته من إنكار الناس لاقتراح لبس القبعة. هذا الإنكار العنيف وتكالب الناس حتى شباب الجيل الجديد مع الأسف الشديد، على الاحتفاظ بما يسمونه «شعار قوميتهم»، كل هذا أدهشني وأحزنني ودلني على أن عقليتنا في ذاتها لم تزل تميل إلى «العزلة الذهنية» وأن جراثيم «البربرية» ما زالت متأصلة في نفوسنا، وأن أمامنا وقتا طويلا قبل أن نهضم الأفكار الإنسانية فى ذاتها، ونصبح أهلا للانضمام إلى هيئة الأمم المتحضرة التي لا تتميز باختلاف الزي واللباس والتي اتجهت كلها إلى وحدة الزي إيذانا بوحدة الإنسانية.

1937*

* كاتب وأديب مصري «1898 - 1987»