ومكة تعني المدينة المتمدينة خارج القرية والمجاوب يعني أنه الوحيد في القرية الذي تملك زوجته بحكم أن السفر العلاجي سابقًا عبادة.

«العلم خير قولوا يا لله في الخير»، بهذا المفتتح المتفائل كان عمدة القرية، يبدأ حديثه الذي سيتكلم فيه عن أمر مهم يعني القرية في شأن مخفي ما. وكان الحاضرون في ساحة المسجد بعد صلاة الجمعة يرددون جميعهم بـ«يا لله في الخير». كان القوم ينصتون إلى حد أن صوت الذباب يكاد يُسمع، من شدة الهدوء، وهذا الإنصات لم يكن قد علم أو حدث تحت تأثير العصا والتلقين ولا التهديد بالخصم من درجات السلوك أو الدرس، لم يكن لأحد أن يكسر حضرة الجماعة فيعطيهم قفاه ويمضي إلى شأنه الخاص. ذلك لأن نتائج الفردية في التصرف الانفعالي النزق.. ستعود على صاحبه، ولأن الجماعة لا تستغني عن بعضها أي أفرادها، وأعتقد أن هذا قد تحول مع الزمن إلى سلوك على هيئة (احترام) بين العلاقات الفردية.. إلى حد الجماعية، بدليل أن هذا التصرف الجميل يحدث في كل اجتماع يستوجب الكل فيه أن يهب حواسه المتجمعة في سمعه وبصره أيضا، فإذا ما شوهد أحد يحول نظره عن المتحدث.. فإن لهذا معنى مفهوما لكل من يراقبه.. جوهره يدل على أن هناك معارضة ما.. سيأتي وقت عرضها بعد نهاية قول المتحدث الذي بدأ بـ«العلم خير» وعادة ما يقول المبتدئ بالحديث «العلم خير يا جماعة».

إن هذا المسلك العادل لم يتلقه آباؤنا وأجدادنا من الفلسفة الهيجلية، ولا الديكارتية أو الكانتية، بل إن أغلبهم في القرى والبوادي لا يحسن قراءة فاتحة الكتاب، بل إنهم ربما نشأوا وعاشوا ودفنوا دون أن يقرأ عليهم وقد يسمعوا سطرا أو كلمة من سيرة «حاتم طيء» ومع ذلك كانوا كرماء إنسانيين بالفطرة، وكانوا في اجتماعاتهم لا يذكرون «الموسر» قبل «المعسر»، وإذا كان ثمة من يرغب في إبداء الرأي فإن الكل يعطيه حق الاستماع، فتبادل الرأي في حضرته هو بداية الأخذ والإعطاء إلى آخر الأصوات.

وإذا كان هناك من سؤال فهو: أليست إيقاعية الحياة الواقعية عندهم وجماعية الآلة الإنتاجية.. هي السبب الأساسي؟!

أعلم أنك كنت تتوقع سؤالا غير ضامن على جواب، محضّر، لكنك قد تبهر إذا علمت أن البناء بالطوب والحديد كان عيبًا في القرية، وأن الغائب في صلاة مسجد الجمعة والجماعة.. كان يفتقد ويسأل عنه، فإن كان مريضا عادوه، وإن كان مسافرا تمنوا له العودة وعادوا أهله في الغياب، وإن كان مشغولا قالوا الله يعينه وربما أجاب أحد عنه معني فقال: سافر بزوجته إلى «مكة» لعلاجها.

و«مكة» تعني المدينة المتمدينة خارج القرية؛ والمجاوب يعني أنه الوحيد في القرية الذي تملك زوجته - بحكم أن السفر العلاجي سابقًا عبادة.

لا أريد أن أحدثك بما كان عليه مجتمعنا في الماضي، وإن كنت أرغب بحرقة، فقد ذكر أحد الأصدقاء من شمال جزيرتنا.. أن شخصًا في «حائل» الحبيبة داهمه ضيوف فلم يجد ما يكرمهم به و«أول كرم أجدادنا في الاستقبال هو البطن» فقام إلى بعيره الوحيد الغالي فنحره لهم وعشاهم عليه.. أتدري بماذا سموه بعد ذلك؟ لقد سموه بـ«الهبيل» ومرادفتها «الغبي» و«الأطوش» و«الساذج» هذه التعليقات جاءت بعد جيل أو يزيد من هذه الحادثة. ولست أدعو إلى كرم الماضين الذي جاء أساسه على واقع الترحال البعيد في الفيافي والصحاري، كذلك وسيلة التنقل المعروفة، منها أن زمانًا قد تغيرت فيه الوسائل الترحالية والإقامات.. لم يعد عيبًا إلا على الضيف الذي يهاتفك من أجل الإقامة والطعام في معيتك بدلا من الذهاب إلى غرفة في أي فندق يستأجرها فيه فيريح ويستريح.

إن إحداث الأمور في غير مواقعها اليوم، وعلى أي صعيد ليس إلا نوعًا من الفرض القسري الجاهز دون أية مراجعة أو تفكير، وبالطبع.. باعتبار أن الماضي هو المجتمع بأكمله شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا، أو كما ذكر زميلنا في القلم الأستاذ (حسن السبع): إن هندسة الروح - كما ذكر الزميل - قد يصعب تحديد اتجاهاتها.. لأنك ككاتب شاعر لا تستطيع أن تفرط في أي اتجاه.. لكنني - والله أعلم - رغبت دون دوافع استشهادية إلى الإشارة حول ديمقراطية الرأي للصالح العام فيما تكتبه الأقلام المتلونة، التي تدعي الثقافة دون الغير في صفحات الجرائد الثقافية المحدودة، ولك أن تتناول المسطرة والفرجار لتقيس فوارق الزمان والمكان والواقع دون أدنى حياء - يرفع في الوجه ذيله.. بل في الوجه والعين والأذن واللسان والعقل، أما إذا كنت تدور عن عجالة الملخص.. فإني سأجيبك بما قاله الموروث «لا يدري المرء أحيانا.. إذا كان بعضه مصابا بخفة العقل أو بخفة الدم» وشكرا!

1997*

* كاتب وروائي سعوي «1955 - 2000».