لا يمكن أن تكون دقيقًا، وصادقًا حينما تصف خطاب الشيخ الدكتور محمد العيسى، إلا حينما تصفه بالأصالة، التي لا تتضح وتظهر إلا بشقها الثاني وقسيمها اللازم، ألا وهي «المعاصرة»، حيث يقوم خطاب الشيخ على ركيزتين مهمتين، لا غنى لإحداهما عن الأخرى، الأولى: وهي ما يمثل جانب «الأصالة» في خطابه، وهو تجلية وإظهار المقاصد الشرعية للدين الحنيف، وأن العمل من خلالها هو الضمانة لإفشاء التسامح والسلم، بكل معانيهما الإنسانية، والثانية: وهو ما يمثل «المعاصرة»؛ بالتركيز والحرص على العمل المعمق من خلال استثمار المشتركات والمصالح الإنسانية.

وكلمة «الأصالة» تحمل في طياتها روحًا محلقة أكثر من مجرد المعاني التي تكتنزها الكلمة، وحينما تردفها بالإسلام، فأنت تعني بلا مواربة: إسلام القرآن الكريم، والإسلام الذي مات عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو كالمحجة البيضاء، وضوحًا، ونصاعةً، وتبيانًا.

وأما العمل وفقًا للمشتركات والمصالح الإنسانية، الذي يعود إدراك أهمية وجوده بين الناس كوسيلة اتصال وتواصل وتعايش، إلى بدايات الوجود البشري على وجه الأرض، إلا أن البشرية أخفقت حتى هذا اليوم في الوصول إلى وصفة ناجعة تجعل «الإنس» يعملون وفق «المصلحة المشتركة» بينهم، وهي التي أسهمت الأديان، وكثيرًا من الأفكار والنظريات في وضع الأطر والمحددات للعيش وفقها، إلا أن إخفاقات بعض أتباع تلك الديانات والأفكار تراكم حتى تعاظمت الحاجة إلى «السلم» و«التعايش»، وباتت تلك الحاجة ماسة وملحة في هذا العصر أكثر.

ولو حاولنا الإجابة عن سؤال القدرة التي مكنت للشيخ العيسى من الجمع بين الأصالة والمعاصر، لوجدنا إجابات متعددة تمثل جوانب الخطاب الشرعي الذي غلب فيه الجانب الإنساني، والمصلحة العليا المشتركة على المستوى العالمي في أداء الشيخ محمد العيسى، الأمر الذي حلق بالخطاب الإسلامي إلى فضاء العالمية، والذي يسعى إلى تحقيق جملة من المعاني التي رسخها القرآن الكريم.

ولعل أول ما يطالعك في مفردات خطاب الشيخ محمد العيسى، محاولة نسج علاقات بناءة ذات قيم تواصلية سامية عابرة للاختلافات والتمايزات بين البشر، فيقول في كلمة خالدة له: «تفعيل معنى أخوتنا الإنسانية، يُلغِي الحواجز ويَرْدم الفجوات، ويبني الجسور، ويُقَوّي من عزيمتنا للعمل على مشتركاتنا الإنسانية»، وهذه الانطلاقة العصرية في خطاب الشيخ، مستمدة من معنى قرآني أصيل، يحرص على إرساء مبدأ التعارف، الذي يمكن أن يكون في مواجهة كبرى مع التجاهل، والذي يعني عدم معرفة فضائل الآخر وميزاته، الأمر الذي يؤدي إلى الاستعلاء، والانتقاص من الآخر، والانكفاء على الذات، والتأسيس لأنماط غير سوية من العلاقات مع الآخر المختلف عرقيًا ودينيًا، وهي العلاقات التي يحكمها دائمًا وأبدًا التنوع والاختلاف.

إن مغبة الانطواء على الذات، هو ما يؤسس لعلاقات غير بناءة بين المجموعات الإنسانية، كما يحرم الذات من إمكانيات كبيرة للاستفادة من علاقات سوية يمكن أن تنسج مع الآخر، فضلاً عن أن انعزال المجموعات الإنسانية عن بعضها، يوفر بيئة خصبة لنمو المخاوف والهواجس، التي تعطل وتعيق كثيراً من الجهود والمحاولات، التي يمكن أن تبذل لقيام علاقات إيجابية بين تلك المجموعات، كما أنها تدفع باتجاه خلق أزمات وصدامات في ما بينها، فإشكالية العيش المشترك ليست بالأمر الجديد على قائمة أولويات الفكر الانساني، فهي لخطورتها كانت وما زالت موردًا لكثير من الجهود التي أثمرت معالجات شتى، بغض النظر عن النتائج التي أفضت إليها؛ أكانت تخدم قيام تعايش سوي بين مختلف المجموعات البشرية، أم كانت تؤسس لتعايش ملتبس، مما ينتج أنماطًا غير سوية من العلاقة، ولطالما كان النص الديني مجالًا لقراءات مختلفة تنحو منحى هدَّامًا يلغي فكرة العيش المشترك وثقافته وقيمه، ودائمًا ما يفضي الاستغراق في الجدل الديني، خصوصًا في مساحات الاختلاف إلى تأزيم العلاقة بين الحضارات، ويحول العلاقة بينها من تلاقح حواري إلى صدام وتناحر، كما أنه يؤدي إلى صرف «الإنس» عن العمل المشترك لتعزيز الخير، ومواجهة الشر على مستوى الكوكب، غير أن القراءات التي تعزز العيش المشترك، وتعمق ثقافته، كما في خطاب الشيخ محمد العيسى، وآخرين، كفيل بنقل هذه الثقافة المتسامحة والمسالمة إلى ثقافة عالمية، وفي هذا يقول الشيخ: «المساجلات السياسية بأهدافها الواضحة، والاتجاهات الفكرية بنزعاتها المتطرفة، تجاوزت منطق التفاهم والحوار الأخلاقي بين الأمم والشعوب والدول»، ولهذا يصر على: «أن ترسخ المناهج التعليمية في صفوفها الأولى»وبأسلوب تفاعلي«القناعة بحتمية التنوُّع والتعدُّد في عالمنا، وأنه -في إطاره الإيجابي- يُمثل إثراءً للإنسانية يُعزز من ازدهارها ووَحْدتها» ويؤكد أن: (الوئام الإنساني ضرورة تكامل بقائه وكرامة ذاته، وأننا عندما نتفهم خصوصية بعضنا نحو القناعة الدينية والمذهبية والثقافية والفكرية عمومًا نصل إلى مستوى عالٍ من الحكمة والتحضر)، ويعطي سببًا لما ينافي الوئام والسلم الإنساني في كلمة، وفي أخرى يعطي حلًا، فيقول في السبب: «ما يسمى الإسلام السياسي صعد من الصدام الحضاري بين الشرق والغرب»، ويقول في الحل: «حاجة عالمنا إلى دراسة تحديات وعوائق وجدليات المواطنة الشاملة أكثر من حاجته إلى التذكير بقيمها ومبادئها المستقرة»، كما يؤكد أن: «أفكار ما يسمى الإسلام السياسي من معيقات تحقيق المواطنة الشاملة بمقاصدها الداعية للتعايش وتعزيز اللحمة الوطنية حول العالم»، وأننا: «نحتاج في عالمنا الواسع إلى حوار المواطنة الشاملة لأن هناك بعدًا غائبًا عن كثير في تفاصيلها وتدخلاتها»، وأن: «الهوية الدينية والهوية الوطنية تتكاملان ولا تتعارضان أخذا في الاعتبار مقاصد ديننا الحنيف الداعي للسلم والوئام والآمر بالوفاء والعهود والمواثيق وتأليف القلوب والموازنة بين المصالح والمفاسد».

ومناقشة الشيخ محمد العيسى ونقضه لهذا المفهوم في أفكار «الإسلام السياسي»، كمن يضرب عصفورين بحجر واحد، كون الإسلاموية لا تؤمن بمفهوم المواطنة، وكذلك لتضيقها دائرة الخلاص الأخروي، الذي ينتج عنه أن تكون العلاقة مع الآخر علاقة إلغائية وتصادمية، والله تعالى يقول: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، الأمر الذي ينعكس بالسوء على مسألة العيش المشترك، والسلم والوئام العالمي.