إن انتماء العربي والمسلم لحضارته وثقافته، والدين الذي يعبد الله تعالى به، لا يتنافى أبدًا مع الالتقاء بمحيطه العالمي والإنساني العام، والتعاطي معه، بل إن الدين الحنيف يحث على ذلك، ويحض عليه بشكل صريح، كما في قوله تعالى: (وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا)، والتعارف هنا ضد التجاهل، وضرب الذكر صفحًا عن التلاقي مع الأمم والشعوب، بمختلف لغاتها، وأديانها، وثقافاتها، الأمر الذي يحرم المسلم من الثراء والإثراء المعرفي الحضاري، فالتواصل الإنساني هو تواصل تبادلي يتيح لكل طرف فيه الإفادة من الآخر، بحسب ما يعتبره ويحسبه ضمن القواسم المشتركة.

وأهم جسر لهذا التواصل هو التخلي عن أحادية الرأي والفكر، والانطلاق في فضاءات التعددية، التي يأتي من أهم بنودها احترام خصوصيتك الهوياتية، والعمل بأقصى درجات التعاطي مع المشتركات، التي توحد البشر، وتجعلهم يتعاملون مع أنفسهم ومع الآخر المختلف، بالسلمية والتشاركية والتواصلية الإنسانية، وفقًا لأعمق المفاهيم النظرية وأدقها لهذه المصطلحات.

ولا تكون حماية المكون الحضاري بمفرداته المتعددة، لغة وتاريخًا ودينًا، إلا بوضعه سلميًا جنبًا إلى جنب مع اللغات والتواريخ والأديان المختلفة، وبهذا يتضح تنوع الثراء الإنساني، وتظهر مميزاته، وحسناته، وهنا يمكن العمل على مكافحة معايبه، والإفادة منه، ولا يتحقق ذلك إلا بالتواصل الإنساني، والتشاركية.

وثمة فريقان مؤثران، في إعمار هذه التواصلية، أو تدميرها، أما المدمرون، فهم أصحاب الرايات السود من المتطرفين، أحاديي الرأي والرؤية، الذين يعملون على إذكاء التجاهل والتفارق القاتل، والذي لا يبقي إلا عرقًا، أو دينًا، أو حضارة واحدة، هي المهيمنة، والمسيطرة، والبقية دونها بدرجات بعيدة، إن سمح لها بالبقاء أصلًا، وأمثلة ذلك موجودة في جماعات وفرق الأديان السماوية، وفي الأيديولوجيات الأرضية، التي تقتات على الإقصاء والعنف.

أما المعمرون، دعاة الخلود الإنساني، ودعاة البناء والسلم، فهم الذين يكرسون الانفتاح والمساواة والحوار واللاعنف والإيمان بالعلم، الذين يدعون الإنسان للعمل والإنجاز والمشاركة في بناء مجتمع كوني يحقق الرفاهية والعدالة للجميع.

وفي ظني أن أكبر عامل يمكن أن يؤثر على البشر، سواء في الإعمار الإنساني السلمي التعايشي، أو في التدمير الأحادي المتطرف، هو الخطاب الديني، حيث قررت «كارين أرمسترونج»، في كتابها المهم، (الله لماذا؟، 2010)، حقيقة مهمة، وهي أن: «الإنسان مخلوق ديني»، بمعنى أنه يمكن إخضاعه بعامل الدين بكل سهولة، مما حوَّل الدين في مختلف حالاته وأحواله، إلى صناعة بشرية تقوم على الاستقطاب والإقصاء والاختزال، والتبسيط، والانتقاء، والتبرير، مما أنتج تدينات متعددة، ذات اتجاهات مختلفة، لا تتكئ على مرجعية إلهية -بل تفسيرات بشرية- يمكن أن تعمل على توحيد بني الإنسان، ولو في أطر عامة مشتركة. وثمة عامل خطير في هذه التدينات المتحولة، بسبب تأثير التفسيرات ثم الخطابات الدينية المبنية على تلك التفسيرات، حيث ترى أنها لا يمكن أن تقوم وتنمو وتبقى إلا بتدمير الآخر، وفي ذلك تقول «أرمسترونغ»: (الحياة الدينية ومنذ بدايات البشرية الأولى، كانت متجذرة في الحقيقية المأساوية، بأن استمرار الحياة يعتمد على تدمير مخلوقات أخرى)، وهذا كان في إطار الصيد، غير أن هذا المفهوم -من وجهة نظري- تطور عبر العصور، حتى طال الإنسان نفسه وليس الحيوان فحسب، فاستمرار حياة المتدين المسيحي مثلًا، كانت قائمة على تدمير الإنسان الوثني، واستمرار حياة الإنسان الوثني -وهو متدين حسب معتقده- قائمة على تدمير الإنسان المسيحي، وانتقل هذا «المفهوم الوهم» إلى الإنسان المتدين في هذا العصر بأي تدين غلبت فيه التفسيرات البشرية الدين الأصيل، وهنا تحول الإنسان إلى الاعتقاد بأن بقاءه وبقاء معتقده لا يقوم إلا على دمار الآخر، أو إذعانه المطلق له. والمراقب لخطاب الشيخ الدكتور محمد العيسى، يرى أنه من المعمرين الحذّاق لهذا المفهوم التواصلي والتشاركي السلمي والإنساني، حيث إنه وانطلاقًا من مقولة: (إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان)، يعمل على إفشاء عناصر أساسية في الدين، لا تتغير ولا تتحول، والتنوير بها، وتعليمها للناس، بمختلف الطرق والأساليب، لأنها تحمل جوهر الإسلام، الدين الإلهي، وتحافظ عليه كهوية متماسكة وصلبة، وهذا لا يتحقق إلا بالتكيف والتلاؤم مع البيئات المختلفة والجماعات الإنسانية المتمايزة عن بعضها، الأمر الذي يحقق صلاحية الإسلام لكل زمان، وكل مكان، وبغير هذا تعلو التدينات القائمة على تفسير الدين تفسيرًا بشريًا لا تسطع فيه أنوار الإلهية.

وأضرب على حكمة تعامل الشيخ العيسى وخطابه الديني المتسامح مثالًا، بموقفه الموفق من الجريمة النكراء، والمخزية، وهي القيام بحرق نسخة من المصحف الشريف، على يد بعض المدمرين -الذين ذكرنا وصفهم آنفًا- في السويد، حيث وضع الأمر في موضعه الصحيح بلا تهوين ولا تهويل، فنبه إلى أنه حرق لنسخة من المصحف الشريف، وليس حرقًا للقرآن الكريم كما عبر البعض، فالقرآن الكريم محفوظ بحفظ الله جل وعلا له.

كما شدد على وجوب احترام هيبة الدولة، وهيبة دستورها، مع الإقرار بأحقية الاستنكار الشديد للفعل والتنديد به، ومن باب الإنصاف ذكر الشيخ أن عموم الشعب السويدي، يفرق بين مبادئ الدستور والممارسات التي تحتمي بنصوص الدستور للتعبير عن تلك الأحقاد والكراهيات، ما لم يتجاوز ذلك إلى فعل مادي مضر، فيتحول إلى عنف مجرم بالدستور.

وأوضح الشيخ بكل تعقل، أن الأمر ليس تحاملًا من السلطات السويدية على المسلمين، بدليل سماحها لأحدهم بحرق نسخة من أحد الكتب السماوية لديانة أخرى.

ولم ينس الشيخ العيسى أن ثمة أسباباً وراء مثل هذه الأعمال، وما دعا هذا الحاقد إلى القيام بجريمته، هو استفزاز المسلمين، وجلب الأضواء، ويجب أن يفوت المجتمع المسلم في السويد الفرصة على مثله، باحترام السياق الوطني، والتعبير عن استنكار هذه الجريمة بأسلوب حضاري لا يؤثر على التعايش الأمثل.

وذكر كلامًا مهمًا على مسألة مقاطعة منتجات البلد، وأنه لا يجوز ذلك بحال من الأحوال، لكون المقاطعة تتعلق بأمر عام، سيادي، وليس قرارًا يعاقب به فرد أو جماعة اقترفت تلك الجريمة، لأن المجرم سيكسب رهانه على الاستفزاز والتصعيد، وربما خسرنا من يتعاطف مع القضية، ويستنكر الجريمة، بسبب هذه المقاطعة.