هذا هو المقال الثامن ضمن مقالات (آلية عمل الصحوة اليوم)، والتي أعرض لكم فيها معالم الأرضية التي تكوَّنت عليها ذهنية الصحوة وحركتها، في عقدين مضيا من الزمان، وكيف خلقت نفسها في طور جديد، من أطوارها المتحورة، وسيستمر ذلك لعدة مقالات قادمة -بمشيئة الله-، ثم يعقبها حديث عن الجذور الدموية والقتالية في فكر «التنظيم السروري»، وحديث أخير نختم به هذه المقالات؛ لتبيان مآلات هذا العمل الممتد، وأبرز مظاهره ومدى تأثيره اليوم.

كان موضوع الفتوى واحدًا من أهم موضوعات الاستفتاء، الذي نشط لإجرائه سلمان العودة، بمعاونة مجموعة من أتباعه، وذلك قبل إنشاء مؤسسة الإسلام اليوم، والتي تحولت إلى مجموعة الإسلام اليوم في وقت لاحق.

جاء السؤال الأول في هذا المحور، حول أهمية إصدار فتاوى مكتوبة في القضايا التي تهمُّ المسلمين محليًا أو عالميًا، وقد بينت الإجابات على الاستبانة الخاصة بالاستفتاء، أن الفتوى في نظر القوم، هي الموجه الرئيس للقطاع العريض من الأمة (أي: العوام، كما يسمونهم، أو الصحوة المفرِطة، كما أسميها)، وأجمع كل من تم استجلاء رأيه في هذه الاستبانة، على أن الفتوى المسموعة والمكتوبة، لهما أهمية كبرى، غير أن الأغلبية من هؤلاء الدعاة، يغلبون جانب أهمية الفتوى المكتوبة لتوضيح الحق للناس -كما يدعون-، ولسهولة انتشارها ونفعها، وللتواصل مع المجتمع الواسع -الأمة-.

وكان من الآراء اللافتة، القول إن تكون الفتوى من جهات موثوقة، وليست فردية، بسبب غياب الفتاوى المستقلة، وكأن المؤسسات والهيئات الشرعية التي تملأ العالم الإسلامي، غير معتبرة عندهم؛ لأنها لن تفتي بعدم شرعية الحكم في الدول العربية، ولن تفتي بمروق الأفراد الذين يناوؤون الجماعة الإرهابية من الدين.

ورأى المستفتون أن أهمية كتابة الفتوى تنبع من الحاجة للتوثيق، وأن أهمية توثيق وكتابة الفتوى تكمن في مسألة توضيح الأمور، حتى لا يبقى المسلمون في غبش، وذلك في ظل الحيرة الموجودة لدى الناس حول المسائل الدينية والدنيوية.

غير أن ما يدهش القارئ لهذه الدراسة، هو وضع الفتوى، وبصريح العبارة كوسيلة للتعبير عن الرأي، بل جعلوها الوسيلة الوحيدة للتعبير عن الرأي في بعض الأحيان، كما أنهم يرونها الوسيلة الأسرع في وصول الفكر إلى كافة الناس، وفي هذا فساد وإفساد كبير للفتوى.

أما عن الفتوى عبر الهاتف أو الجوال، فقد رفضها الغالبية؛ لأنها لا تسجل ولا تنتشر، وبالنسبة للفتوى عبر البريد الإلكتروني، فتختلف قليلًا لأنها موثقة وربما تنتشر.

وجاء الرأي حول تشكيل مجموعات من طلبة العلم، لإصدار فتاوى جماعية، بالتأييد التام، فقد أيد جلُّ المستفتين وجود دائرة إسلامية عالمية مستقلة، تستطلع آراء العلماء في مختلف الأصقاع حول القضايا الملحة والنازلة، وتقدم عرضًا محايدًا بالآراء المختلفة بموضوعية تامة، لتخليص الفتوى من التلوين الذي يحدثه كونها ضمن إطار سياسي أو مذهبي أو إقليمي محدد، ومن أبرز الأسباب الداعية للعمل على وجود دائرة فتوى عولمية مستقلة -في نظرهم-، هو ضعف جهات الفتوى الحالية، أو عدم قبولها لدى الكثير من المجتمعات، وبحجة كثرة الملاحظات على الفتاوى ضمن إطار محدد، وبعدها عن العالمية وفقه الواقع، ونظرًا للحجر المفروض على بعض العلماء، بسبب بلدانهم ومجتمعاتهم، كما أن الدراسة أكدت الأهمية القصوى لهذا الأمر، وضرورة تحقيقه؛ لأنه يخرج بالفتوى عن القوالب المحددة التي تفقدها قوتها، ويخرج بها عن المؤثرات التي تضعف أهميتها، ولأن هذا من الممكن أن يوجد موقفًا موحدًا للجماهير المسلمة، مما يجمع المسلمين، ويقرب وجهات نظرهم، خصوصًا في ظل كثرة القضايا والمستجدات، كما أن هذا ينشئ سلطة أدبية ومعنوية عميقة للدعاة، وهنا المغزى فادح الخطورة: الجماهير المسلمة، وسلطة الدعاة عليها.

وأما عن السؤال حول أمثل الطرق في نشر الفتوى، فاتفقوا على: الإنترنت، وبرنامج تلفزيوني ثابت، والكتابة في الصحف والمجلات، والظهور في القنوات الفضائية.

وخلصت الدراسة إلى أهم المآخذ والملاحظ التي تشين أنماط الفتوى الحالية مما يجعلها تفقد لونها وثقة الأخذ بها، وفي نفس الوقت تؤدي إلى فقدان الثقة في الجهة الصادرة عنها، والقائمين على هذه الجهة من الدعاة، وخصوصًا في أوساط أنصاف المتعلمين -كما يزعمون-. ويمكن تلخيص هذه الآراء أو الانتقادات بالتالي:

أولًا: هناك شبه إجماع، على أن المذهبية هي أحد المآخذ الخطيرة على الفتوى الحالية، والمذهبية تتجسد أحيانًا في الاقتصار على فهم معين، أو رأي معين، بغض النظر عن الآراء التي جاءت في نفس المسألة لدى علماء آخرين، أو مدارس فقهية أخرى.

ثانيًا: عدم الأخذ في الاعتبار واقع الأمة، ومكر الأعداء، وما تؤول إليه الفتوى من مفاسد، قد لا يعلم بها المفتي.

ثالثًا: عدم استقلال الجهات المخولة بالفتوى، وبالتالي تأثرها بمؤثرات سياسية أو اجتماعية خارجة عن ذات الفتوى.

رابعًا: الاستدراج أو عدم التنبه لمسألة التوظيف السياسي للفتوى.

خامسًا: عدم الفهم العميق لمقاصد الشريعة، وعدم الشمولية في النظر لمتعلقات المسألة المطروحة، واقتصارها على حرفية السؤال دون التعرف إلى ما قد يحتاج إلى بيان، أو إيضاح.

على كلٍ، فإن هذا المحور مهم، لأنه يناقش موضوعًا على قدر كبير من الخطورة والحساسية، ولا يمكن الاستغناء عنه، بل إنه الموجه الرئيس في حياة المسلمين، وهذا المحور لم يناقش الفتوى كمسألة أصولية، بل ناقشها كمسألة لها تأثير عميق يمكن استغلاله إيجابًا في صالح الجماعة الإرهابية ومستقبلها، وناقش هذا المحور -كما سلف- أهمية الفتوى المكتوبة، ومدى جدوى استخدام التقنيات الحديثة في وسائل الاتصال لخدمة هذا الأمر، كما ناقش النواحي التي تتعلق بتشكيل لجنة مستقلة معنية بالفتوى، والسلبيات والمآخذ على الفتوى الحالية، والعوامل المؤثرة في روح الفتوى وقبولها، ومدى تأثير العوامل الاجتماعية على الفتوى متوصلًا إلى مجموعة من الآراء، التي شكلت معالم الزمان التالي على الدراسة، ومن أهمها وأخطرها في نظري، المؤسسات المرخصة لهؤلاء الدعاة، والهيئات العالمية، مثل: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورابطة علماء المسلمين، والأول اتحاد منوع بقيادة إخوانية، أما الثاني فسروري صرف، أنشئت في مقابل ذلك الاتحاد، ويمثل واجهة دولية من واجهتين للتنظيم السروري، وكلها تمارس الفتوى.