من يتعامل مع النصوص الشرعية - أياً كانت هذه النصوص - عادة ما يتعامل معها وفق ظاهرها، أو مقاصدها، وهذا يستدعي منه - بطريقة أو بأخرى - أن يبذل جهداً خاصاً في الجمع بين ما ظاهره التعارض، وأن يوازن بين النصوص من حيث كونها جزئية أو كلية، وأن يهتم اهتماماً كبيراً بالواقع، حتى يحمي الناس من الدخول في فوضى دينية أو فكرية، تشتت ولا تجمع، تفرق ولا توحد. وهنا أذكر واحدة من أجمل العبارات التي يكرر المتخصصون الاستشهاد بها، وأقصد قول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتاب «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: «..لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله..». ويضيف في موقع آخر من المرجع نفسه «..من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان..».

ليس عيبا أبدا الدعوة إلى مراجعات سياقات النصوص، كما كان يفعل أصحاب نبينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم، الذين كانت لهم اجتهاداتهم في ظواهر النصوص، بناء على جلب المصالح، أو دفع المفاسد، والاستفادة من واقعهم الذي لم يكن مشمولا بعموم النصوص التي بين أيديهم، وهو الذي فتح ويفتح الأبواب لمن بعدهم في المراجعات، من أجل أن تكون حياة الناس سلسلة وميسرة. وهذا حتماً لا يعني التنازل عن الثوابت القطعية، المجمع عليها، ويعني الفهم الكامل والتام للعلاقات بين ما أمر به الشرع، وما نهت عنه الشريعة، وما يصلح للناس أو يفسدهم، وما ينجيهم من الوقوع في العنت والتطرف والوهم والعداء والخطأ والأنانية، والظن بأن العالم واحد. والحقيقة أنه عالم متعدد، بل إن جماله في تعدده، وقيمته في تنوعه، وهذا لن يتأتى حصوله إلا على يد من يفهم ضرورة أن تتعاون البشرية من أجل إصلاح الأرض واستدامة هذا الصلاح، ومن يفهم ضرورة تطابق النصوص مع تفاصيل الواقع الجديد، وكل ذلك يحتاج إلى بيئة مساعدة وآمنة، خالية من الإرجاف والإشاعات، بعيدة كل البعد عن الإقصاء والاتهامات.

أختم بأن الخوف من المراجعات، بحجة السلامة، والذي يستدل من يشجعه مثلاً بقول ابن المقفع، أحد أهم شخصيات القرن الثاني الهجري، في كتاب «الأدب الصغير»: «..على العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا وإن ظن أنه على اليقين، وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان..»، ليس أمرا واجبا، أو أمرا مطلقا، ومن يجعله قانوناً لحياته يخشى عليه من موت ضميره، والوقوع في جريمة النفاق والكذب، والدخول في حزب «الشيطان الأخرس»، بدلاً من الفوز بالدعاء المشهور: «رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي».