أوصي كل مدير بشدة، ألا يخضع لابتزاز الاستقالة. عليه أن يخبر من يريد الاستقالة أن كل الأبواب مفتوحة. لا يستطيع أي إنسان أن يحيا حياة طبيعية في ظل الابتزاز مهما كان نوعه. والابتزاز في هذا المجال لا يختلف عن الابتزاز في كل مجال: اقبل الابتزاز مرة وسوف تضطر إلى قبوله إلى الأبد. كنتُ، في كل عمل أتولاه، أردّد أمام الزملاء أنه لا يوجد موظف لا يمكن الاستغناء عنه وأنني أضع نفسي في مقدمة الذين يمكن أن يُستغنى عنهم ولا أزال أقول ذلك.

كما أن على القائد الإداري ألا يتردد في اتخاذ القرارات الضرورية، حتى ولو كانت مؤلمة. اتضح لي أن بعض المديرين الذين أمضوا سنين طويلة في مواقعهم لم يكونوا قادرين على الأداء الذي توقعته منهم. فُوجئ الجميع، ذات صباح، بقرار حمل الكثير من التغييرات. جاء إعلان القرار مفاجئًا ولكني لم أتخذه إلا بعد دراسة متأنية وبعد استعراض للبدائل كلها. لم يكن هناك أي قدر من تأنيب الضمير. لم يكن القرار يتضمن فصل أي موظف؛ كل ما كان يتضمنه هو نقله من موقعه. إذا لم تكن للقائد الإداري القدرة على نقل موظف لم يعد قادرًا على العطاء من موقعه فمن الأفضل ألا يتصدى للقيادة الإدارية.

في هذه الفترة جرت محاولة لرشوتي، إلا أنني احتجت إلى بعض الوقت قبل أن أتبين المقصود. زارني مدير شركة أجنبية عاملة في الميناء وقال إن شركته تقدمت بعطاء في مناقصة عامة طرحتها المؤسسة. كانت قيمة العقد في حدود خمسة عشر مليون ريال، وهو مبلغ ضخم بمقاييس ما قبل الطفرة. قال المدير الأجنبي إن «البعض» اتصلوا به قائلين إن بوسعهم ترسية المناقصة على شركته مقابل مليوني ريال. وأضاف إنه قرر بدلًا من إضاعة الوقت مع الوسطاء، الذهاب، مباشرة، إلى صاحب القرار. طلبت منه أسماء هؤلاء البعض، إلا أنه رفض أن يذكر اسمًا واحدًا، وأضاف أن شركته مستعدة لدفع المبلغ لصاحب القرار، ولصاحب القرار وحده. ضحكت وقلت له إن الطريقة الوحيدة للحصول على المشروع هي تخفيض العطاء لأنّ صاحب القرار سيرسي المناقصة على العطاء الأقل دون أي عطاء آخر. كانت هذه المحاولة الأولى والأخيرة لرشوتي. يبدو أن الأخبار في دنيا الراشين والمرتشين والرائشين تنتشر بسرعة البرق. وقعت في فترتي الوزارية عقودًا بعشرات البلايين من الريالات ولم أسمع أحدًا يتحدث، تصريحًا أو تلميحًا، عن شيء يُقدّم لصاحب القرار. عندما حدثت المحاولة لم يكن حسابي في البنك يتجاوز عشرين ألف ريال. فور عودتي إلى المنزل قلت لزوجتي عندي خبر عجيب. أضعتُ اليوم مليوني ريال. أدركت زوجتي على الفور، ما حدث، وقالت: «لا. لا أعتقد أننا سنموت جوعًا».


في ربيع سنة 1975 (1395) استُشهد الملك فيصل، رحمه الله، في مكتبه وأصبح ولي العهد الأمير خالد ملكًا، وأصبح الأمير فهد وليًا للعهد ونائبًا لرئيس مجلس الوزراء. بعدها أخذت شائعات التغيير الوزاري تتخذ طابعًا محمومًا: أصبحت حديث كل المجالس. في كل مكان كانت هناك أسماء وترشيحات وقوائم تُعد أو تُطلب. بدأت التلميحات عن دخولي التشكيلة الجديدة تتزايد، وأخذ بعضها طابعًا يتجاوز التلميح. وجه الأمير فهد بتعييني أمينًا عامًا لمجلس البترول الأعلى الذي كان يرأسه، إضافة إلى عملي. عندما ذهبت إليه أشكره قال: «تكليف مؤقت» هناك مهمة أكبر في انتظارك. إلا أن التلميح لم يصل حد التصريح إلا عندما قال لي الملك خالد بنفسه في صيف سنة 1975 (1395): (قريبًا سوف يكون هناك تغيير وزاري وسوف تدخل الوزارة).

لم أسمح لهذا كله أن يؤثر على عملي في المؤسسة. في هذه الفترة تلقيت عرضًا من الأمير سعود الفيصل الذي أصبح وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية للانتقال إلى وزارة الخارجية، وعرضًا من الأستاذ محمد العوضي وزير التجارة والصناعة للعمل معه وكيلًا للوزارة لشؤون التجارة. شكرت الوزيرين، واعتذرت، اقترحت على وزير التجارة والصناعة تعيين الدكتور سليمان السليم في المنصب، وهذا ما كان. إن عجبي لا ينتهي من أولئك الذين يتصورون أن الوزارة أصبحت في متناول أيديهم بعد سماع تعليق سريع أو مجاملة عابرة. أعرف كثيرين أصيبوا بصدمة كبرى عندما جاء التشكيل الوزاري خاليًا من أسمائهم. يبدو أن قدرة البشر على تصديق ما يودون تصديقه لا تكاد تعرف الحدود. أغرب ما في الأمر أن معظم هؤلاء المرشحين لم يرشحهم أحد سوى أنفسهم، فكان شأنهم شأن جحا الذي أراد التخلص من أطفال مزعجين فأرسلهم إلى عرس وهمي في الحارة، وما كادوا يذهبون حتى صدق نفسه وهرع بدوره إلى العرس المزعوم.

1994*

* كاتب وشاعر وسياسي سعودي «1940-2010».