برغم أن العهد الذي تعيشه المملكة العربية السعودية في الوقت الحالي تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - يمتاز بالعديد من الإنجازات الضخمة على جميع الأصعدة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، مما شكّل معالم لافتة في طريقها نحو الازدهار والتطور والنماء، فإن ما تشهده بلادنا من نهضة تشريعية شاملة ومتكاملة يعد علامة بارزة، وتأتي مناسبة اليوم العالمي للقانون الذي يصادف اليوم الثالث عشر من سبتمبر فرصة لتسليط الضوء على هذا التحول ابتداء بمنظومة التشريعات الاربع التي أعلنها سمو ولي العهد وصدر منها نظام المعاملات المدنية والذي يهدف بالأساس إلى توفير البيئة العدلية للمواطنين والمقيمين في السعودية، وتهيئة البيئة الاقتصادية للمستثمرين، وتمكين الجميع من معرفة حقوقهم وواجباتهم من دون الرجوع للمحكمة. وصدور نظام الأحوال الشخصية ونظام الإثبات وقريبًا بإذن الله نظام العقوبات الجزائية التعزيرية وستسهم تلك التشريعات في ترسيخ أركان العدالة وضمان حقوق كل فئات المجتمع.

وتحظى هذه النهضة التشريعية بأقصى درجات الاهتمام ويتابع كل تفاصيلها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وذلك لأنها أول وأهم المداخل نحو الاستقرار والأمان الاجتماعي، كما أن الوصول إلى تحقيق التطور الاقتصادي يستلزم حفظ الحقوق ووجود مظلة قانونية متكاملة تكفي لتحقيق هذه الأهداف. ومما يجدر ذكره أن هذه الرؤية الواضحة رافقت المملكة منذ توحيدها على يد المغفور له - بإن الله - الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود حيث كان يردد على الدوام بأن العدل أساس الملك، وكانت أولى اهتماماته بعد استكمال توحيد الدولة هي سن القوانين والتشريعات.

فالقضاء هو المنظم الرئيسي لأحوال الناس ومعاشهم، والقوانين هي التي تضع الحدود الفاصلة ما بين الحقوق والواجبات. لذلك فإن كل جوانب الحياة ترتبط ارتباطًا وثيقًا لا فكاك منه بالشق القانوني لأنه هو الذي يمنع حدوث الفوضى ويوقف التجاوزات، وهو ما فطنت إليه القيادة الرشيدة فأولت اهتمامًا كبيرًا بترقية مرفق القضاء لإكسابه القدرة على مواكبة النمو المتسارع الذي تشهده المملكة.

كذلك اهتمت الأجهزة المختصة منذ وقت مبكر برفع كفاءة الكادر البشري لمسايرة هذه النهضة التشريعية، وأولت عناية فائقة لزيادة قدرات القضاة والعاملين في الحقل القضائي، لأنهم يمثلون رأس الرمح في أي عملية تطوير، ولا مجال لنجاح أي جهد إذا لم يكن ذلك الكادر مؤهلًا لقيادة التغيير نحو أهدافه المنشودة. فتم إنشاء مركز التدريب العدلي لرفع الكفاءة، وإقرار آلية واضحة ومستمرة للمراجعة والتقييم، وتدريب القضاة على أحدث البرامج التقنية المرتبطة بمجال عملهم في إطار توجه الدولة نحو التحول الرقمي الكامل وفق مستهدفات رؤية المملكة 2030.

ومن أكبر وأهم ما امتازت به التعديلات القانونية التي شهدناها خلال الفترة الأخيرة تمكين نظام المحاماة ورفع أهميته وهو ما يتجلى في إنشاء الهيئة السعودية للمحامين لتتولى القيام بالمهام الكبيرة الملقاة على عاتقها، فالمحامون هم ضلع أساسي في منظومة العدالة، لدرجة أنه أطلق عليهم مسمى القضاء الواقف، فهم أعوان القضاة على إصدار الأحكام العادلة وضمان مسار الحق والإنصاف.

لم يقتصر الدعم الذي تقدمه الدولة للمحامين على ذلك، بل تم إقرار تعديل نظام المحاماة ليتضمن السماح لمكاتب المحاماة الأجنبية بالعمل في المملكة. فمن المعلوم أن أهمية جودة المنظومة القانونية لا تقتصر على رد الحقوق والمظالم للمواطنين والمقيمين فقط، بل إنها أصبحت من أكبر عناصر جذب الاستثمارات الأجنبية، فأصحاب رؤوس الأموال يبحثون عن ملاذات آمنة يطمئنون للعمل فيها، لا سيما في هذا العصر الذي تشابكت فيه التجارة الدولية وأصبحت عابرة للأوطان والقارات، وقد وجدوا في بلادنا البيئة التي تصون حقوقهم وتحفظ أموالهم بتشريعاتها المتكاملة.

لكل تلك الجهود المتواصلة، استطاعت المملكة ترقية مكانتها في المؤسسات المالية العالمية وحصلت على تصنيف متقدم بسبب تكامل قوانينها وما توفره من حماية للمستثمرين الأجانب، وهو ما أسهم في تزايد دخولهم للمملكة بغرض الاستثمار والعمل، خصوصًا بعد إقرار رؤية المملكة 2030. إذ باتت تصنف المملكة ضمن أفضل البيئات القانونية حول العالم في مؤشرات التنافسية، لا سيما بعد تزايد الحملة الوطنية لاجتثاث آفة الفساد المالي والإداري، وتغليب معايير النزاهة والشفافية، فتلك الجهات المالية الدولية تتمسك بتوفر الأجواء القانونية التي تضمن حقوق كافة الأطراف.

ولا شك أن هذا التقدم لم يكن وليد الصدفة بل كان نتيجة جهود وكفاحات أبناء الوطن من خلال استحداث وابتكار أدلة استرشادية لصياغة القوانين، لتحقيق الحوكمة القانونية وتجويد العمل القانوني لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030

كل تلك الجهود التي تبذلها القيادة الرشيدة نحو تغليب مبادئ سيادة القانون وتطوير المنظومة التشريعية ستكون لها آثار إيجابية واضحة في المستقبل، لأن التعديل والتحديث المستمر في القوانين والأنظمة من سمات الدول التي تنشد استمرار التقدم ودوام النهضة، فملاءمة القوانين لاحتياجات المجتمع هي المقياس الحقيقي للتطور والمعاصرة.

وستجني بلادنا بإذن الله ثمار هذه الجهود المباركة لتواصل مسيرتها نحو قمم المجد، وحقيقة فإن ما تحقق من نهضة قانونية متكاملة في هذا العهد الزاهر يدعو للفخر والاعتزاز، وستظل هذه الاصلاحات القضائية التي تنظم جمعية جوانب حياتنا باقية في ذاكرة الأجيال، جسرًا نحو العدالة، وطريقًا لتأكيد عمق وقوة وحجية القانون في المملكة وسيادته، وحصانة إجراءات التقاضي بما يحقق التطور والرفعة ودوام التقدم.