سئل أحد المحللين الإستراتيجيين في واشنطن لماذا تهتم أمريكا كثيرا بالسعودية وتسعى دائما إليها رغم الإشكالات الكبيرة التي نشأت بين البلدين من أيام أوباما وازدادت ضراوتها مع بايدن، ولماذا لا تستعيض عنها بتركيا وهي دولة شرق أوسطية وعضو في حلف الناتو؟ فكان جوابه: إن تركيا بالنسبة للغرب وإسرائيل مثل ألم الضرس قليل من المسكنات ومضاد الالتهاب يحل المشكلة، والشواهد كثيرة على ذلك في القرن العشرين، مثل أزمة الأكراد وسوريا وتدفق اللاجئين ومنظومة الصواريخ الروسية وغيرها، والسعودية بالنسبة لهم مثل الفك مهم جدا، وإذا تألم لايمكن علاجه بالمسكنات، مستدلا على ذلك بموقف الملك عبدالعزيز من قضية فلسطين وقرار وقف البترول في عهد الملك فيصل والغزو العراقي للكويت وموقف السعودية في عهد أوباما وبايدن، والدور السعودي في الحرب على الإرهاب.

قد يكون التشبيه فيه طرافة لكن دلالته تكمن في أن السعودية رقم صعب ومهم ومؤثر في أي معادلة تطرحها أمريكا سياسيا أو اقتصاديا دوليا أو إقليميا، ومن هذا الباب كانت استماتة الإدارات الأمريكية المتعاقبة في كسب الموقف السعودي إلى جانبهم في كثير من القضايا وعلى رأسها قضية فلسطين، والضغوط التي مورست على السعودية في صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية والتطبيع حاليا معروفة وإن كانت خلف الأبواب المغلقة، ولذك فإن القول بأن السعودية تشترط مقابل التطبيع وضع حماية أمنية شبيهة بالناتو أو التعاون معها في السلاح النووي وتخصيب اليورانيوم وتسريع صفقات السلاح فيه تسطيح ساذج لقضية شائكة ومعقدة، فالنووي حصلت عليه باكستان ولم يضف لها شيئا غير القيمة المعنوية أمام الهند، وإيران خصبت اليورانيوم، والعراق استنزفت جهدها ووقتها ومالها في سبيله ولم تحقق شيئا، صحيح أن السلاح النووي يعطي قوة رادعة للمغامرين النووين لكن المحاذير والعواقب وخيمة للطرفين والخسائر فيها أكبر من المكاسب، فعقود من العقوبات الدولية على إيران بسبب النووي أخرت تنميتها طويلا، والحديث عن السعودية بهذا الشكل مثل أن نسأل مليارديرا هل الأفضل أن يشتري سيارة ألمانية مستعملة أو من الوكالة؟

والقول بأن السعودية بحاجة إلى حماية أمنية وصفقات سلاح فيه أيضا سذاجة في التحليل فالسلاح الغربي لم يتدفق إلى السعودية مجانا كما هو في أوكرانيا، وإنما كانت مشتريات السعودية توازن عجز ميزانيات تلك الدول، وقد رأينا في معرض الدفاع الدولي إيدكس 2023 في فبراير كيف تنظر شركات العالم وليست الأمريكية فقط إلى السوق السعودي والخليجي، ثم إن السعودية خفضت كثيرا من درجة حرارة محيطها الملتهب الذي أسهمت أمريكا في إشعال نيرانه، اتفاقية بكين مع إيران، والهدنة في اليمن، والعلاقات الصاعدة بقوة مع العراق، والتنسيق المشترك مع دول الخليج ومصر والأردن، ولقاء جدة بشأن السودان، ومجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن.

القضية أكبر من نووي وأمن وسلاح، والولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وحتى بقية الدول كروسيا والصين والإقليمية كإيران وتركيا ومصر يعلمون أن السعودية لديها نقاط قوة لا يستهان بها وتمتاز بها على أي دولة أخرى، وفي مجال التطبيع مع إسرائيل تملك السعودية 3 أوراق تفاوضية قوية لا تملكها أي دولة أخرى (وتعد الركائز الرئيسية في السياسة الدولية) أولها: التراث، ويشمل الديني كالمقدسات في الحرمين الشريفين وأرض النبوة ومهد الحضارة الإسلامية والتأثير الوجداني والديني لها في العالم كله، كما يشمل الثقافي من خلال الحضارات القديمة المكتشفة حديثا في مختلف مناطق المملكة، والتراث الحي الذي بدأ يأخذ وضعه، والثاني: القوة الاستثمارية العالمية والاقتصاد المزدهر المنطلق من القوة الجيواقتصادية للسعودية التي تشكل الواقع الجيوسياسي، والثالث: دولة مستقرة وآمنة برؤية واضحة لمس العالم نتائجها في ظل قيادة يؤمن بها شعبها وشعب شغوف متوثب ومبدع ومنجز.

السعودية بعد أن انتصرت على الإرهاب قدمت الصورة الحقيقية للإسلام المعتدل، وأوصلت رسالتها إلى العالم أنها ليست ضد اليهود (لتفريقها بين اليهودية كديانة، والإسرائيلية كمكون سياسي، والصهيونية كمكون عنصري لا يقتصر على اليهود فقط) ولا المسيحية من خلال حوار الأديان منذ أيام الملك فيصل في الفاتيكان وحوار الاديان في فينا والموقف من البابا شنودة في أيام السادات ووقفة الملك سلمان معه عندما كان أميرا للرياض في معرض المملكة بين الأمس واليوم بالقاهرة،

وقوة السعودية أنها ستقود ربع البشرية المسلمة من خلال قوتها الدينية بالمقدسات وبالتراث، ثم موقعها الجيواقتصادي والمستقبل، والنفوذ الإسلامي المعتدل قادم وهذا مايخشاه الغرب وإسرائيل، والصراع الخفي الدائر حاليا بين الغرب المسيحي واللوبي الإسرائيلي سيكون لحساب المساحة التي سيقتطعها النفوذ الإسلامي المعتدل الذي تقوده السعودية، وفي حال تفجر أي خلاف كبير مقبل في فلسطين أو دولة إسرائيل ستكون هناك قوة دولية لحفظ الأمن، والمقدسات الإسلامية في فلسطين (الأقصى وما حوله) تتطلب أن تكون القوة الدولية من دول إسلامية، وبقوة التأثير والنفوذ القيادي الإسلامي للسعودية فإن إسرائيل تتطلع لعقد اتفاق مع السعودية بأي ثمن للعقود القادمة والقرن القادم.

ما لم يلتفت له المحللون والمعلقون في حديث الأمير محمد بن سلمان لقناة فوكس في الشأن الفلسطيني الإسرائيلي أن الأمير بهدوء عبقري أعاد رمي الكرة في الملعب الإسرائيلي الأمريكي، وبيّن لهم أن هذه هي مطالب السعودية بكل نقاط قوتها، فانظروا ماذا ستقدمون سويا بورقة واحدة متفق عليها، ولم تكرر أسلوب التهديد الأجوف القديم من 70 عاما، ارحلوا وإلا، وسنرميكم في البحر وغير ذلك، وكان كلام سموه بشأن الفلسطينيين واضحا فقال للعالم بالنص:» القضية الفلسطينية مهمة ونحتاج إلى حلها»، «حياة طيبة وسهلة للفسطينين»، « منح الفلسطينيين احتياجاتهم وجعل المنطقة هادئة»، وبذلك أوصلت السعودية رسالة لإسرائيل وأمريكا أنها تعرف مثلهم وتخطط مثلهم وإيقاعها أسرع في التنفيذ، وهذه الخطوة هي من أعقد صيغ السياسة المعروفة بالصيغ الندية، خطوة مقابل خطوة مثل لعبة الشطرنج، وبمجرد ما انتقلت الكرة تفجرت قنبلة الجدل في الداخل الإسرائيلي بين الأحزاب والتيارات الأيديولوجية والعقائدية، فنتنياهو جعل من تعزيز العلاقات مع السعودية محوراً لفترته في الحكم ووصفه بأنه «نهج من الخارج إلى الداخل»، ولكنه لم يوضح نوع التنازلات التي قد يقدمها للفلسطينيين في سبيل الاتفاق، وفي الوقت نفسه سربت القيادة الأمنية الإسرائيلية تقريرا تعبر فيه عن قلقها من اتفاق تطبيع محتمل مع السعودية، محذرة من أن يتيح لها الاتفاق قدرات نووية، كما هددت قوى اليمين الديني بالانسحاب من حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إن قدم تنازلات للفلسطينيين في إطار التطبيع، كما رميت كرة أخرى بين إسرائيل وأمريكا، فبايدن لم يقدم قائمة محددة بـ»التنازلات المطلوبة»، لكنه قال إنه يريد من إسرائيل اتخاذ خطوات تحافظ على إمكانية تحقيق حل الدولتين، ورد نتنياهو بشكل علني إن الفلسطينيين عليهم أن يكونوا جزءا من الاتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، لكن لا يجب أن يمتلكوا حق الاعتراض عليه، غير أن أخطر ما في خطوة السعودية أنها ستكشف الحجم والتأثير الحقيقي لدولة إسرائيل ليس في داخل أمريكا فحسب وإنما في العالم كله، فهل سينجح البيت الأبيض في ترجمة معطيات التطبيع؟ وهل إسرائيل قادرة على تقديم التنازلات المطلوبة من السعودية؟

ما الذي يعنيه كل هذا؟ يعني أن هناك قائدا شابا عربيا استثنائيا جديدا من جيل الألفية تجاوز مفهوم الزمان والمكان لا يفكر من خارج الصندوق وإنما من فوق الصندوق بحيث يكون ما لديه أعلى مما عند الآخرين فيسبقهم بخطوات، ويطرح أشياء لم يفكروا بها فيضطرون إلى المشي بجانبنا وليس قبلنا حتى يتمكنوا من إدراك الخطوة التالية المنتظرة في قضايا إستراتيجية تنتمي للقرن الحادي والعشرين ولا تشدها أغلال الماضي إلى الوراء.