رغم كثرة مشكلات الأمة الإسلامية، وتعدد مآسيها - في هذه المرحلة التي تعيشها - فإن لمأساة فلسطين خطرا خاصا ومكانا متميزا.

فالرباط بين المسجد الأقصى والبقعة التي باركها الله من حوله بين الحرم الشريف والقبلة التي تجمع الأمة وتهفو إليها قلوب المؤمنين ليس مجرد رباط جغرافي أو تاريخي أو حضاري أو قومي.. وإنما هو دين نتعبد الله به.. ثم هو أيضا، دنيا ومصالح إسلامية معتبرة تجسدت في التاريخ والجغرافيا والحضارة على مر تاريخ الإسلام.. ففي القلب من فلسطين تقوم أولى القبلتين، وثالث الحرمين الذي لا تشد الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقرآن الكريم شاهد على أن الرباط بين هذه البقعة من أرض الإسلام وبين قبيلة المسلمين هو «آية» من آيات الله سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا، أنه هو السميع البصير).

وفي التاريخ الإسلامي.. كانت كل المدن والبلاد المفتوحة، يتسلمها القادة الفاتحون الذين يعقدون معاهدات الفتح والصلح والأمان مع أهل تلك المدن والبلاد.. إلا القدس، فلقد طلب أهلها - عند فتحها سنة 15هـ - 636م - أن يعقد معاهدة صلحها، ويتسلم أمانتها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رغم أن قائد فتحها كان أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح ؟!.. فهي «أمانة الفاروق لدى الأمة الإسلامية».

وعلى مر تاريخ الإسلام كانت القدس وفلسطين محك الصراعات والتحديات التي غطت قرونا عدة من هذا التاريخ.. وعلى أرضها كان المد والجزر بين الإسلام وأعدائه.. من «هرقل» والبيزنطيين.. إلى الصليبيين وأمراء الاقطاع الأوربيين.. إلى هولاكو، والتتر. وحتى الحلف الصليبي - الصهيوني، في العصر الحديث.

والصراع المعاصر والحالي بين أمتنا وبين الكيان الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين، ليس خاصا بأهل فلسطين.. فهذا الكيان إنما يمثل قاعدة للمشروع الاستعماري الغربي، نشأ بروتستانتيا غربيا مستندا إلى أسطورة بروتستانتية تزعم أن عودة السيد المسيح. عليه السلام، ليحكم الأرض ألف عام، قد اقترب أوانها، ولا بد لحدوثها من جمع اليهود في فلسطين وإقامة دولتهم، وشن حرب إبادة ضد العرب والمسلمين.. ولقد صادف تبلور هذه الأسطورة البروتستانتية قيام الغرب بغزوته الاستعمارية الحديثة على ديار الإسلام وبحثه عن أقلية دينية تمثل بالنسبة له موطئ القدم، والشريك الأصغر في المشروع الاستعماري، فروجت الأسطورة في الأوساط الصهيونية الغربية - الباحثة عن وطن يحميها من الاضطهاد الغربي - فقام هذا الحلف الصليبي. الصهيوني ضد العرب والمسلمين على أرض فلسطين.. ليمثل الطور المعاصر لذلك الصراع التاريخي الذي دار بين الإسلام وبين أعدائه على هذه الأرض التي باركها الله.

فالموقف الإسلامي من إسرائيل ليس موقفا من اليهودية الدين... فاليهودية دين من الديانات التي جاء الإسلام مصدقا لها، ومصححا لما حرف من عقائدها ومهيمنا - هيمنة الرسالة الخاتمة - عليها.. ومتعايشا مع المتدينين بها.. وإنما موقف الإسلام من هذه الدولة، هو موقفه من الصهيونية التي تحالفت مع الغرب الاستعماري ضد نهضة الإسلام ويقظة أمته، وأقامت في أرضه المقدسة قاعدة استعمارية استيطانية تقتلع المسلمين من ديارهم، وتحترف العدوان المنظم لإجهاض النهضة والتقدم في وطن العربية وعالم الإسلام.. مستغلين في ذلك أساطير توراتية حول وعد إلهي لبني إسرائيل بأرض ما بين النيل والفرات. وللإسلام من هذه القضية - قضية اغتصاب الأرض والإخراج من الديار - موقف حسمه القرآن الكريم عندما قال: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).. فلا موالاة ولا سلم بين المسلمين وبين من يخرجونهم من ديارهم ويظاهرون على إخراجهم من الديار - وخاصة إذا كانت هذه الديار، أمانة الفاروق عمر بن الخطاب التي أودعها لدى الأمة.. وكانت الأقصى وما بارك الله حوله في القدس وفلسطين.

وهذا الموقف الإسلامي، من هذه القضية، يتأكد ويزداد وضوحا وحسما عندما نعلم أن المسلمين الأوائل بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحاربوا مشركي قريش لمجرد شركهم ورفضهم التدين بالإسلام، فالحرب للإكراه على الدين مرفوضة إسلاميا، وهي لا تثمر إيمانا وتصديقا قلبيا يقينيا، وإنما تثمر نفاقا يدينه الإسلام.. وإنما حارب المسلمون المشركين لأنهم اعتدوا على المؤمنين، وفتنوهم عن دينهم، ولأنهم أخرجوهم من ديارهم.. والذين يتأملون آيات القرآن التي جاء فيها الإذن بالقتال، بعد الهجرة، وهو التحريض على هذا القتال يرون كيف كان الإخراج من الديار في مقدمة أسباب الإذن بالقتال والتحريض عليه، (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله).

1996*

* أكاديمي وباحث مصري «1931 - 2020»