الرفق بالحيوانات واجب إنساني كبير وجليل، ولقد تطوع في يوم ما، وعلى عهد العربات الكارو، بعض ذوي الفضل والغيرة والشفقة عليها لمتابعة أصحابها وملاحقتهم، حتى لا يقسوا على البغال أو الحمير، ولا يحملوها ما لا تطيق أو يضربوها زيادة عن اللزوم.

كما كان يتجمهر بعض الأهالي، ويبدون سخطهم على مفتشي البلديات ومندوبيها ـ أيام زمان ـ حين يصطحبون الصياد الماهر ومعه بندقيته، لقتل الكلاب التي تزعج السكان بنباحها أو التي يشك في سعارها، خشية الإصابات بداء الكَلَب (بفتح اللام)، حيث لم تكن الحقنات موجودة في المستشفى الوحيد ببلدة جدة، ولا في الأجزخانة اليتيمة فيها.

وطبيعة الرفق بالحيوان لا تأتي بالاكتساب أو الوعظ والإرشاد، ولكنها في الشخص، إذ تنبع من الإحساس وحده.. الإحساس الرقيق بطبيعته، ولكن قد يتغالى عشاق الحيوانات في العطف عليها، وفي ترتبيتها لدى اقتنائها إلى الحد الذي يصل بهم إلى الوسواس أو الجنون الحاد.

ذلك هو بالضبط.. بالضبط ما حدث للمرحومة الآنسة أسما الجداوية، والشهيرة باسم «بسباسة»، حيث نشأت هذه الفتاة الشعبية، وهوايتها العطف على البساس، وجمعها وتربيتها، وذلك قبل أن تنشأ الكثيرات من النساء الأفرنجيات اللواتي يشاركنها هوايتها في تربية القطط، سواء في أوروبا أو في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية.

لقد نشأت الآنسة «بسباسة»، أو أسما الجداوية، وهوايتها جمع البسس بكل أنواعها ما عدا النوع السيامي، حيث لم تكن هناك معاملة تجارية بين سوقي جدة وبانكوك، لاستيرادنا الرز السيامي، اكتفاء باستيرادنا الأرزاز بأنواعها من المزه للهوره للبَكَّا من الهند قبل انقسامها إلى قمسين «الهند وباكستان»، ثم إلى ثلاثة أقسام بعد انفصال بنجلاديش!!.

وشغلت بسباس الآنسة «بسباسة» معظم أنحاء البيت، المكون من مجلس وصُفَّه ومخلوان ودقيسي وديوان كبير ودهليز طويل، وإن كان غير مستقيم، حتى إن والديها لم يجدا، فيما يرويه الجيران، الأمكنة الفارغة والمخصصة للنوم أو للأكل أو لوضع أدوات «الجزة» التي كانت أم بسباسة تحرص على «نصبتها»، باعتبار أن الجزة ونصبتها بتوابعها كلها، من بنت المنقل للسموار حتى الملقاط، مصدر زهو واعتزاز عند ربات البيوت في تلك الأيام.

ولقد أفرطت الآنسة أسما الجداوية، والشهيرة باسم «بسباسة»، في العناية بقططها والعطف عليها، وتربيتها تربية سليمة، وتعليمها طرق النوم وآداب الأكل وقضاء الحاجة في أوقاتها، وأصبح شغلها الشاغل حماية بسسها من أولاد الجيران، ثم من تصرفات والديها اللذين كان همهما صرفها عن هذه الهواية البسسية حتى عمدا إلى الضرب والمطاردة لها نفسها، ولبسسها بالتبعية.

وكما قال لي جار العائلة العم الشيخ كرشوم: «قصرو.. ما أطول عليك.. المسألة زادت، والمصيبة راحت وجات من تحت راس البسس، لأن المسكينة حصل لها لطف في الأول، وبعدين فصخت.. يعني اتجننت جنان زايد عن الحد..!! قول.. ما أطول عليك برضو.. آخرة المآخر أبو بسباسة كان عندو مقعد أرضي مستقل عن البيت، فشالها وحبسها فيه، وصك لك عليها الباب، وصار يدي لها أكلها كل يوم من بره.. بره، يعني كان يرمي لها هو من أسياخ الروشان حقت المقعد اللي حبسها فيه».. انتهى كلام العم كرشوم.

ويروي أهل المحلة القدامى أن الشهرة التي استفاضت حول «بسباسة» لم تكن لأحد من كبار البلدة، وهكذا تأتي الشهرة الواسعة العريضة أحيانا لمن لم يسع إليها. كما أنها تأتي عن طرق عجيبة.. شاذة.. وبسيطة، ولا تخطر على بال، ولهذا كان لا يخلو وقت من أوقات النهار وأطراف الليالي إلا وتجد نفرا من الصبيان أو الشباب، أو الرجال أحيانا، يتجمعون أمام المقعد، ليروا ويسمعوا صوت «بسباسة» وعاداتها وأصنافها وطبائعها، وعما تنعم به من حياة حافلة بالغرائب والنوادر التي لاقتها وتلاقيها منها، فالبسة «نَجَفَة» مثلا لا يمكن أن تهدأ إلا إذا قامت «بسباسة» نفسها بتمشيط شعرها، خصوصا شعر الذيل!!.

كما أن البسة «قَمَرِيَّة» لا يمكن أن تشرب الماء وأن تأكل المقرر لها من الفضلات البيتية إلا على طبلة خشبية، وطبقا لأصول وآداب الطعام المتبعة في تلك الأيام الدسمة.. وهكذا مما لا يتسع المقام لتعداده.

تلكم هي الآنسة أَسْمَا المظلومية الجداوية التي سبقت في جدة أترابها من هواة القطط في لندن وباريس وروما ونيويورك، وسواها من عواصم العالم الكبرى، والشهيرة بـ«بسباسة».

أما سبب هذه التسمية فلا يحتاج -كالعادة- إلى تعليل أو تفسير أو إيضاح، فإنها آتية من لفظة «بسة»، أي (قطة) بالاصطلاح العامي، وإن كانت القواميس تقول: بسبس، بكسر الباء الأولى وضم الثانية مكررة، دعاء أو زجر للغنم!!.

ونعود لجار العائلة العم كرشوم الذي يقول: «..وفليلة من الليالي ما أصحى لك إلا على الصوت اللي قومني أنا وغيري من سابع نومه.. قصرو.. ما أطول عليك.. إيش في؟ إيش حصل؟ قالوا: تعيش راسكم.. بسباسة ماتت!! ماتت؟؟ أيوه!!، وهادا كان يا محفوظ البقاء والسلامة سنة؟ سنة؟.. قول معايا يشيخ.. سنة الخديو!!».. انتهى كلام العم كرشوم!!.

ويروي لنا صادق أفندي، القاطن في الزقاق اللي يوديك على أيدك اليمين على بيت باعشن القديم، قبل ما توصل على بيت قابل القديم برضو، أنه تطوع من سكات لسكات، بوصفه محبا على السكِّيتي وشاعرا شعبيا، لرثاء الآنسة «بسباسة»، مع احتفاظه بورقة الرثاء في علبة تنك رفيعة من اللي كان أهل أول يحفظوا فيها حجج البيوت ووثائق العُزَل الصغيرة، وقد قال لا فض فوه.. ولا أطال لوعته:

آذَنَتْنَا ببينها أسماء

رُبَّ ثاو.. يَمَلُّ منه الثواءُ

قل لبسباسة لقد كان فخرا

لم تنله باريس.. أو روماءُ

لا.. ولا لندن.. أو نيويورك

وحتى.. في جنبنا سيناءُ

أنتِ سَوِّيت للبساس مقاما

في حمى جدة.. فَحَقَّ الثناءُ

إيه «بسباسة» كدا برضو تمضي وتسيبي البساس؟؟ هذا الجفاءُ؟.

1972*

* شاعر وصحفي سعودي «1911 - 1979»