... كم نصاب بالذهول والحسرة حينما نجد شعبًا بأسره يتحول في غمضة عين إلى جهاز دعاية كل شيء فيه.. والشياطين والأعداء والخصومات والحروب التي أغرقت الإنسان في كل تاريخه بالآلام والمخاوف والعداوات إنما نبعت من نفوس المعلمين وحيلهم لا من مصلحة الإنسان أو مصلحة الحياة.....

وأنا لا أستطيع أن أحتقر كاتبًا أو مفكرًا أكثر من احتقاري لذلك الكاتب أو المفكر الذي يذم ويمدح ويؤمن ويكفر ويؤيد ويناقض ويغير مواقفه من الأشياء لأن السماء أو شهب السماء ورجومها أرادت ذلك أو فعلته... وإني بصدق وعمق لأهنئ هؤلاء الكتاب والمفكرين على صفاقتهم وقدرتهم على التحرر من قيود الاحترام للذات....

ودعارة الرأي والضمير والعلم والمذهب والعقيدة شر أنواع الدعارات. وهؤلاء الذين يفسقون بعقائد الناس ومذاهبهم وأفكارهم وأقلامهم هم أفسق الفاسقين...

وما أبشع أن يتفق رأي الناس في الأشياء ، يؤمنون جميعا ويفكرون جميعًا ويؤيدون أو يعارضون بلا خلاف - يتحركون بالجملة كأنهم حزم الحطب...

ولن يجد البشر في كل ما يجدون ما هو منكر وسخيف وعبودية مثل أن يجدوا أن الشعوب تتعامل: تتعادى وتتحارب وتتلاقى وتختار مذاهبها وآلهتها وأفكارها وأخلاقها وأصدقاءها وأعداءها من خلال أحقاد، ومن خلال أهوائهم ومخاوفهم وتوتراتهم وخصائصهم النفسية والعقلية...

ولست أعتقد أنه يوجد تشويه للإنسان أخبث من هذا التشويه.

.... والعجيب جدًا أن البشر لم يفطنوا حتى اليوم إلى أن هؤلاء هم الذين يصنعون خصوماتهم وأحقادهم الكبرى التي تنتهي بالحرب أو بالاستعداد الدائم للحرب، وأنهم هم الذين يقيمون الحدود والحواجز الفاصلة بينهم بالأسلاك الشائكة والمكهربة...

فعلى البشر أن يعرفوا كيف يجعلونهم يمنعون ذلك بصفتهم الشخصية ويمنعونهم من أن يؤدوا ألعابهم الخطرة فوق رؤوس الشعوب أو بعضلات الشعوب... يجب عليهم أن يتبارزوا بالسيوف مبارزة فردية كما كان القدماء يفعلون...

وهذا أقرب إلى العدل والشجاعة وأخلاق الفروسية.

والمشكلة أن لكل إنسان عام شخصية خاصة يحيا داخلها حينما يجب أن يكون إنسانًًا عامًا يحيا خارج ذاته وأخطر الأشياء أن يكون للإنسان العام شخصية فردية - أي أن يحيا ويفكر ويتألم ويتلذذ من داخل ذاته...

لا يوجد من يتصور أن جيلًا كبيرًا قد يمر من سم الإبرة.. ولكن الناس لم يزالوا يشاهدون ملايين الناس يمرون من خلال غلطة.

وقد حاول الإنسان في تاريخه الطويل أن يتحاشي هذا المأزق لكن الخطب أكبر...

وكلما ضعف هؤلاء ضعفت الاحتمالات التي تجعل الشعوب تتصافح بالسيوف ويزحف بعضها على بعض تحت رايات نقودها حشود متلاحقة من الحمقى والمجانين والمرضى والمنحرفين والطامحين والمقامرين بالبشر !...

إنه لولا هؤلاء لهبطت الخصومات بين الشعوب إلى أكثر من تسعين في المائة...

1959*

* كاتب سعودي «1907 - 1996»