الفصاحةُ عند العرب حسية؛ إذ يقولون عن اليومِ الذي لا غيمَ فيه ولا قَر: «يوم مُفصِح»؛ لهذا حين يرى البلاغيُّ كلامًا فصيحًا يقول: خَلص من الغيومِ التي حجبت معناه الحسي المباشر.

هذا مدخلٌ يجعلني أطرح حكمًا على الترجمةِ، لا يلزم منه معرفة اللغةِ المنقول منها، وأفترضُ أنَّ قائلَه الجاحظ؛ من خلالِ قصته مع موسى الأسواري، حين عَدّه من أعاجيبِ الدنيا، إذ كانت فصاحتُه بالفارسيةِ في وزنِ فصاحتِه بالعربية، وكانَ يجلس في مجلسِه، فتقعد العربُ عن يمينِه، والفرسُ عن يسارِه، فيقرأ الآيةَ من القرآنِ، ويُفسّرها للعربِ بالعربية، ثم يُحوّل وجهَه إلى الفُرسِ فيفسّرها لهم بالفارسية، فلا يُدرى بأيّ اللسانين هو أبين.

ويتبادر إلى الذهنِ أنَّ الجاحظَ وقعَ في إشكالٍ منطقي؛ إذ كيف عرفَ -وهو يجهل الفارسية- أنَّ الأسواري عارف بأعماقِ الفارسيّة كمعرفته بالعربية؟ وإن كانَ الجاحِظُ يَعرف الفارسيةَ جيدًا؛ فمعرفة أعماق اللغتين حينئذ لا يستلزم منه العجب، فها هو يعرفها كموسى، إلا أنَّ التاريخ يذكر لنا أنَّ الجاحظَ لم يكن يُجيد الفارسية، أو يعرفها معرفة ضعيفة، لكنَّه بالإجماع إمامٌ في العربية.

ومن هذا الإشكال يُولَد الحلّ؛ إذ وجدتُ الجاحظَ يَنصُّ على الفصاحةِ، وكأنَّه أراد معنى للحكم على الترجمة، ظاهِره الفصاحة، وهي التي نعرفُ منها أننا أمام المعنى مباشرةً، وكأنَّ اللغتين صارتا لغة واحدة، وسيكون السؤال: كيف يُعرف أنَّ ما يُقرأ هو معاني اللغة المنقول منها؟ سنقول -ابتداءً- إنَّ موسى الأسواري يجيد العربية تمامًا، لأنَّ الجاحظَ من رُبّانها وحكمه معتبر، وسنقول إنَّ الجاحظ يجهل الفارسية، لكنَّه أقدمَ على سماعِ ترجمة موسى، فحدّد احتمالات توصِله إلى حكمٍ على الترجمة -بناءً على أنه لما سمع موسى لم يشعر أنه من ثقافة مختلفة، بل كأنَّه من صُنِع المترجِم نفسِه- فقال: إما أنَّ موسى الأسواري أجادَ أو أخفق، فإن أجادَ فإما أنه أضافَ للحقل معنىً جديدًا، أو أنه نقلَ مرادَ المؤلِف كما سيتّفق عليه الرأي العام، دون التقيّد بألفاظِ كلامه، ومنطقِ لغته، وإن أخفقَ فإما أن يكون نقل المعنى حرفيًا، أو أنه ضمّنه عقائد تُعبّر عن المترجم لا المؤلف.

وسيقول من يقرأ حكم الجاحظ حينها: أما الإجادة فلا تعليقَ عليها، لأنَّ الجاحظَ إما أنه وافق حكم من يعرف اللغتين معرفة عميقة تامة ويستحق صفة التعجب منه، أو أنه كشفَ عن كاتب خلّاقٍ استطاع أن ينقل معناه الخاص من النظر في نصوص اللغات الأخرى، فالأولى واضحة، والثانية يميزها النظر في سؤال: إذا كان هذا المترجم سيضيف معناه الخاص، لِمَ يقول عن نفسه: «إنه مترجم»؟ فتأتي الاحتمالات الجاحظية: إما أن تكون الإضافةُ تفسيرات ورؤى لغوية مطروقة من خلال منطق اللغة الأم للمترجم، أو هي إضافة غير مقصودة ابتداءً.

ففي الأولى سيتضح للجاحظ -بحكم علمه الدقيق باللغة العربية- أنَّ ثمة خللًا في منطقِ الترجمة، وأما الثانية فإما أن يكونَ المترجم أبدعَ حين فكّر مع صاحبِ النص الأصلي في موضوعه؛ ولقوةِ حذقِ المترجم ابتكر مرادًا لم يَعنِه كاتبُ النص، ولكنَّه إضافة معرفية قد تكون نواة لشيءٍ يُطوّر الموضوع، أو يكون المترجم أساءَ فهم النصِ ونقل معناه إلى مرادٍ آخر، وهنا سنخرج من الإجادة إلى الإساءة، فالأول - وهو الإبداع في لحظةِ التفكيرِ مع المؤلف- سيبرُز في تفكير «قارئ الترجمة» من خلال التخصّص الدقيق ومتابعة النظرية اللغوية وتثبيت الإضافة، وذكرها من خلال تلقي القراء له ومنهم الجاحظ نفسه، وأما الثاني وهو إساءة فهم النص الأصلي؛ فهذا سيتضح للمتلقي في سياق النص المترجم أولا، ثم سياق الخطاب ثانيًا؛ ففي سياق النص سيقف المتلقي على البنى الصغرى للنصِ والمتواليات المتعددة المنتظمة في شرطِ التماسك والترابط..

ولهذا نصصتُ على أنَّ الجاحظ/المتلقي ضليع باللغة المنقول إليها، فيتحدد للقارئ شيئان: إما أن يكون المترجم أبدع نصًا لغويًا متكامل البنى والتراكيب والدلالات أو لا؛ وما يهمنا هنا هو الأول؛ إذ كيف سيحكم -حينها- أنَّ النصَ تُرجِم ترجمةً دقيقة؟ فهنا سيعود المتلقي إلى سياقِ الخطاب من جهة، وإلى المعنى الذي جاء به المترجم من جهة أخرى، أما جهة المعنى؛ فإنه يحقق التماسك والترابط أولا؛ وهذه مفترض وجودها عند المترجم؛ لأنَّ الجاحظ –وهو الضليع في العربية- رآه نصًا متماسكًا، ثم ثانيًا مآلات المعنى في علاقته بالخطابِ الكلي للموضوعِ المطروح، فالمشهد الدرامي الذي بناه الجاحظُ لحكايةِ موسى الأسواري يُعطينا مؤشرًا على مآلات المعنى وعلاقته بالخطاب؛ إذ قُسِّمَ المجلس إلى جهتين، جهة للعرب، وجهة للفُرس؛ وهذا الفصلُ قد يكون فصلًا للتنبيه الصوتي، لكنّه -أيضا- دليلٌ على ما يجمعهما من مشتركاتٍ ثقافيةٍ متولّدة من المكان، فيمكن أن يميز العربيُ تلقي الفارسي -والعكس صحيح- من خلال السلوك والرأي، وإن كان المتلقي كاتبًا فمن خلالِ ما يُطرح، حيث سيكون ذلك ظاهرًا على المترجِم ومَن تَلقّى النص؛ وهذا يعني أنّ المتلقين يحيلون بنيةَ النصِّ المترجَم إلى محتوى، والحاكم/الجاحظ سينظر في هذا المحتوى، ويميز من خلاله ما يُعينُه على الحكم، ثم إننا لا ننسى أنَّ مجموعَ التلقّي العام علامةٌ من علامات الفصاحة، بالتعريف الذي ذكرناه في مطلع المقالة.

وأما الإساءة في فهم النص فتضمينه لشيءٍ من أنساقِ الثقافة المنقول إليها بأفقٍ لغويٍّ وحضاري، وهذه سيميزها الجاحظ، الناقد أولًا، أو المثقف، والمختص في الحقلِ نفسه المقروء ثانيا. وإن كان المترجم نقلها حرفيًا ففهم الجاحظ لتراكيب الجمل وتآلفها في النص مقياسًا.

وأخيرًا يمكن أن يكون النصُّ المترجَم ذا علاقة بالمحتوى الذي أُنتج من المتلقين، ثم ذا علاقة أخرى وطيدة بمجموع النظريات وتطبيقاتها في المجال، من خلال التلقي المتعدد للنصِّ ذاته من جهة مُتَرجِمه أولا، ثم من جهة مترجمٍ آخر إن وجد، ثانيًا.