استمرت العلاقة التسلطية بين الاستشراق والشرق «المتروبول والمستعمرة» على امتداد حقبة مديدة بفضل المنحى الاستزلامي للأول والضراعة الاستلامية للثاني، بحيث تكيف الوعي الشرقي للمهام التقبلية التي فرضتها عليه سلطة الغرب المتفوق سياسيًا واقتصاديًا، وتبعًا لذلك عقليًا وحضاريًا، ولم يكن ميسورًا هذه العلاقة أن تنفصم، أو تغير لصالح المغلوب مادام هذا التفوق جاهزًا، وعلى الرغم من انحسار الاستعمار المباشر واستقلال شعوب الشرق في كيانات ذات سيادة قانونية، فإن التفوق الغربي بقي يمارس إيجابيته من خلال الاستعمار الجديد، الذي استبدل بالاحتلال مؤسسات سياسية مستقلة، ولكن مرهونة بمصالحه العليا المتراوحة بين يوميات التبادل التجاري الشائك، وبين السر الخفي الكامن في أعماق إمبراطورية من طراز جديد ترث وتستحضر كل ما خلفته إمبراطوريات الماضي القريب والبعيد وتضيف إليه تعزيزات مستحدثة تستقيها من جموح الذهن التقنوي المتفلت لإنسان اليوم.

عاش الغربي منذ ثورته البرجوازية - الصناعية مستشرقًا في تعامله مع الشرق، وعاش الشرقي مستشرقًا بالغربي الذي صنع تاريخه بيديه بعد أن ألغى التاريخ المنتج سابقًا بايدي الشرقيين أنفسهم، وبرغم اللحن المنهجي المسفن للكتابة الاستشراقية فإن المؤرخ الغربي لم يجد على الدوام ما يمنعه من الأصحار بصناعته القاصدة هذه، إن أحدث كتاب استشرافي يصدر عن مؤرخ بريطاني من الجيل الحاضر يقول، مثلاً، في حديثه عن البحرين، إن تاريخها المكتوب لا يمتد إلى أكثر من الخمسمائة عام، أي إلى وصول أول أوروبي إلى تلك الجزر، حيث بدأ تاريخ البحرين المكتوب، أما مئات المصادر المدونة في العصور الإسلامية عن البحرين، وأما الأحداث الضخام التي عاشتها البحرين في الجاهلية والإسلام، وأما دولة الفقراء العلمانية التي أقامها القرامطة في البحرين، وما جاورها واستمرت 200 عام، حين كانت أوروبا تحكم بالإعدام حرقًا على من يجتهد في تأويل الكتاب المقدس، فهذا كله ليس من التاريخ، مادام لم يصنع بأيد أوروبية، ولقد ترتب على الشرقي أن يبقى حيث هو مستشرقًا بالعقل الغربي، ليس فقط بوسائل القهر المؤسساتية المعتادة، بل وعبر قناعات وتدها الشرقي لنفسه مستعينًا بإيجابية الباحث الغربي، الذي اعترف له بدور الأنثى في التاريخ، وتكاملت على هذا الصعيد جملة مسلمات تبادلها الشرقي مع الغربي في إطار هذا الشكل من تقسيم العمل.

فالعقل الشرقي هو القاصر دومًا، ليس في هذا العصر الرأسمالي العملاق فقط، بل وفي كل عصر، وحياة الشرقي نوافل قابلة للتعطيل في مقابل حياة الغربي المتماهية بذاتيات واجب الوجود، ولغات الشرق بدائية، أو بدوية، أو عجماء تحتاج لكي تفصح عن أهلها، إلى مكمل، أو بديل من الغرب يمنحها القدرة على الأداء والحركة. ومن هنا يفقد الشرقي حقه في موارده التي يجب أن تذهب إلى الغرب لتشغيل مصانعه نهارًا، ومراقصه ليلا، والمطلوب من الشرقي مقابل ذلك أن يستعيد مادته الخام مصنوعة جاهزة من الغرب الذي يمتلك ليس فقط حق المادة الخام، وإنما أيضًا حق تشكيلها وتحويلها، ولقد كنت أسمع وأنا صبي كيف أن الحكومة المستقلة في بلدي المنتج للنفط كانت تلاحق الأشخاص الذين تأنس فيهم القدرة على الاختراع، بل وكيف اختفى في ظروف غامضة الخاص تجرؤوا على الاختراع، فعلا، وكيف أتلف ما اخترعوه قبل ان يصير جاهزًا بداهية تنزل عليه من مصدر مجهول قد يكون السماء، أو الجن أو الدولة، فالاختراع تبعًا لهذه العقيدة التي كنت أسمع الأحاديث والحكايات حولها، في الأربعينيات، هو مجلبة السخط القوى الغيبية أو الأجهزة الرسمية التي يمكنها أن تصرع الإنسان من حيث يراها، أو لا يراها، ويرتهن هذا بدوره في حالة الأنثي التي تخرج من جنسها فتسترجل في خرق فاضح لنواميس الطبيعة تستحق عليه غضب السماء والدولة معًا. ولدى البحث عن معيار للأشياء فإن الأدب الغربي يزودنا بالمفاتيح المطلوبة، هكذا علمنا أساتذتنا أن نقارن مستخدمين تزمينًا مقلوبًا حتى فيها يقول المستشرقون إنه من أخص خصوصياتنا، الشعر مثلا، بصرف النظر عن زمانه لأن الزمان محذوف من ذاكرة المؤرخ الإمبريالي، إذا أردنا أن ننقد شاعرًا عربيًا، وقبل أن تظهر المؤلفات الموسوعية التي ترجمها، مؤخرًا، عبد المعين الملوحي من أدب الصين وفيتنام لم تكن تملك أي رصيد من أدب الشرق يصلح للمقارنة أو الاستيحاء، أما تاريخ الشرق فيمكن مقايضته لحساب التاريخ الغربي بايسر السبل، وقبل أعوام، احتفلت أوروبا بمرور خمسمائة سنة على اختراع الطباعة دون أن يسأل أحد عن مصير سبعمائة سنة أخرى من تاريخ الطباعة في الصين وكوريا.

وليس أمام الشرقي، لكي يثبت حضوره في التاريخ - ماضيه وراهنه إلا إثبات انتمائه الغربي، في حين يقول طه حسين أحد مؤسسي الفكر الحديث في العالم العربي، إن الثقافة العربية هي غربية لا شرقية، فإنه يكرس هذه الرغبة الأنثوية الدارجة في الحضور التاريخي من خلال الغرب.

1972*

* مؤرخ ولغوي عراقي «1932 - 1998».