بينما تسعى بعثة الأمم المتحدة إلى تقديم الدعم لإجراء انتخابات عامة في ليبيا، فإن تلك الانتخابات تولج بصعوبات وتحديات حسبما ذكر أستاذ السياسة والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللّيبيّة – طرابلس، الدكتور يوسف محمّد الصوّاني، في مقالته المنشورة بدورية «أفق».

ويشير الصواني إلى أن الانتخابات لا تحقق على الدوام أغراضها في بلدان الصراع التي تجد نفسها أمام خيارين: إما إجراء انتخاباتٍ تنافسيّة، بما يترتّب عنها من تنافُسٍ وصراعٍ أملاً أن تجري الانتخابات النقلة السحريّة إلى السلام والديمقراطيّة، أو اللّجوء بدل الانتخابات إلى إقرار جملةٍ من التنازلات اللّازمة لتحقيق السلام مثل تقاسُم السلطة والديمقراطية التوافقية والعفو الشامل والمُصالَحة.

نقطة تحول

تعد الانتخابات نقطة تحوّل بعيداً عن لغة البنادق، لكنّها يمكن أن تكون، هي ونتائجها، ذات أثرٍ سلبي بحيث تُصبح أداةً لتوليد العنف والمزيد من انعدام الأمن وعدم الاستقرار.

وعن التجربة الليبية، يقول الصواني: «بعد سقوط نظام معمّر القذّافي، أجريت في 2012 انتخابات المؤتمر الوطني العام، وأجريت في 2014 لانتخاب مجلسٍ للنوّاب».

البرلمان المُنتخَب تعرَّض للرفض من قِبَل القوى المُسيطِرة على سلفه، فاضطرَّ للعمل من شرق البلاد، بينما أعاد المؤتمر المُنتهي الولاية نفسه للمشهد، وشكَّل حكومةً خاصّة به، لتنقسم البلاد على كلّ الصعد السياسيّة والأمنيّة، وفشلت جهود الأُمم المتّحدة وبعثتها للدعم في ليبيا في نقْلِ البلاد من الصراع إلى السلام والمُصالَحة.

واليوم، فإنّ حكومة الوحدة الوطنيّة، التي نجمت عن مَسار الأُمم المتّحدة، باشرتِ العمل منذ مارس 2021، لتنحصر دائرة نفوذها عبر الميليشيات في العاصمة، خاصّة بعدما قامَ البرلمان الذي مَنحها الثقة بسَحْبِها منها في سبتمبر 2021، وكلَّف حكومةً بديلة رفضتِ الحكومةُ القائمة الاعتراف بها، وتسليم مقاليد البلاد لها، ليشكّل البرلمان حكومةً ثانية أيضاً، ويستمرّ الانقسام السياسي والمؤسّساتي في البلاد.

فجر هش للديمقراطية

اعتبرت انتخابات 2012 علامةً فارقة تجاه الانتقال الديمقراطي في ليبيا، لكن مقابل أن حزب تحالُف القوى الوطنيّة حَصَلَ على غالبيّة الأصوات في مُواجَهة حزب العدالة والبناء، الذراع السياسيّة لجماعة الإخوان المُسلمين، فقد كان «العزْل السياسي» الذي اعتمده المؤتمر في مايو 2013 أخطر عمليّة إقصائيّة للفائزين، وفَتَحَ أبوابا جديدة للصراع والحرب الأهليّة عندما أَصبح المؤتمر الوطني مُعبِّرا عن مصالح ورؤى أطراف سياسيّة معيّنة بدلَ أن يكون صوتَ الأمّة والمُعبِّر عنها.

هكذا ارتفعت الأصواتُ مُطالِبةً بانتخاباتٍ جديدة، لكنّ المؤتمر الوطني أراد التمديد لنفسه، ليولد حراك «لا للتمديد»، ما أدّى إلى قبول المؤتمر الوطني مضطرّا إجراء انتخابات جديدة.

انتخابات مجلس النوّاب

جَرت انتخاباتُ مجلس النوّاب اللّيبي في 2 يونيو 2014 بينما كانت التحرّكات على الأرض تُنبئ بمعركةٍ مُقبلة لا محالة. لذلك، لم تتعدّ نسبةُ المشاركة فيها الـ18 %. ومع اضْطرار البرلمان لعقْد الجلسة الأولى في طبرق، بلغَ الصراع ذروته، في حين أَعلنت الدائرةُ الدستوريّة في المحكمة العليا بطرابلس في نوفمبر 2014 أنّ الانتخابات غير دستوريّة، ونتائجها باطلة، ما عزَّز عوائق دون إقامة نظامٍ قانوني دستوري في البلاد، ومهَّد إلى صراعٍ شامل. لذلك جُمِّدت نتائج الانتخابات في 2014، وعُرقِلت عمليّة الحوار الوطني والمُصالَحة الوطنيّة.

هل الانتخابات مُمكنة؟

إنّ الانتخابات في زمن الصراعات الحادّة لا يُمكن أن تقود إلى حلولٍ لمُشكلاتِ التّنازُع على الشرعيّة، وانقسام السلطتَيْن التنفيذيّة والتشريعيّة، كما هو الحال في ليبيا راهناً. لقد قادت الانتخاباتُ التي أُجريت بعد سقوط القذافي إلى مزيدٍ من الصراعات والفوضى والعنف والفساد،

وتَرفض الأطرافُ المُتصارِعة الانتخاباتِ، وتُعَرْقلها كلّما كان ذلك مُمكناً. هذا ما حصلَ في نهاية العام الماضي. وفي غياب الدولة ومؤسّساتها المَعنيّة والقويّة الموحّدة، يُصبح واقع الانتخابات أمراً أكثر تعقيداً ومثاراً للشكّ والرفض حتّى قَبل إجرائها والتسليم بنتائجها، مع التزوير فيما يتعلّق بتسجيل النّاخبين، وإجراء الانتخابات الحرّة المطلوبة.

تُبيِّن التجربة اللّيبيّة الحاليّة أنّه كلّما بَدا الاتّفاقُ على الانتخابات وشيكاً تتراجع الأطراف المَعنيّة عنه، وتبدأ في فعْل كلّ ما يُمكن لإعاقة الانتخابات، تماماً كما فعلَ مجلس الدولة بالنكوص عن موافقته على القوانين الانتخابيّة، أو كما عمل مجلس النوّاب بالتفرُّد بالقرارات خلافاً للاتّفاق السياسي.

صعوبات عميقة

إن افتراض إجراء انتخابات اليوم في ليبيا يُواجَه بعدد من الصعوبات أو التحدّيات التي لا تتركّز على المسائل السياسيّة فقط. كما تُبيِّن لنا الأحداث والتصريحات المُتتالية، فإنّ حكومة الوحدة الوطنيّة مثلاً، التي يترأّسها عبدالحميد الدبيبة (هو مرشَّح رئاسي مُحتمَل)، صارت طَرفا في الصراع، ولا يُمكنها ضمان الأمن الانتخابات ونزاهتها. كما أنّه لا يُمكن، وعلى الرّغم من السيطرة الأمنيّة الظاهرة للقوّات المسلّحة اللّيبيّة بقيادة خليفة حفتر شرقا وجنوبا، ضمان انتخابات حرّة ونزيهة، فهو أيضاً مرشّح رئاسي مُحتمَل، مع عدم إغفالنا ما يُمكن أن يقوم به المرشّح سيف الإسلام معمّر القذّافي ومُناصروه، حيث وصفه البعض بـ«القوّة القاهرة» التي عرقلت عمليّة الانتخابات العام الماضي. كما يجدر ألّا نتغافل أيضا عن أنّ تاريخ الانتخابات في ليبيا يحفل بشواهد تزوير متكرّرة.

إنّ إرساء الديمقراطيّة عمليّة محليّة طويلة تعتمد على الجهات والظروف المحليّة، وليست حَدثا قصير الأجل يديره المُجتمع الدولي. لذا، فإنّ من الحِكمة عدم التسرُّع في إجراء انتخابات تقود لوضعٍ كارثي مثلما حدثَ منذ 2014، حيث أدّت الانتخابات إلى المُواجَهة، ثمَّ عمّقت من الإحساس بالإحباط والفشل، لدرجة باتت معها قطاعاتٌ عريضة من المواطنين إمّا تتحسّر على زمنٍ ولّى أو صارت تُفضِّل أن يَحكم البلاد رجلٌ قويّ ينتشلها من الفوضى السائدة.

على الأُمم المتّحدة التخلّي عن فَرْضِ مُقارَبة السلام اللّيبرالي، وأن تَدعم حوارا وطنيّا شاملا، للتوافُق على عقْدٍ اجتماعي أو ميثاقٍ للثوابت الوطنيّة الجامعة بدلا من إجراء الانتخابات، وإملاء شروط العمليّة السياسيّة بشكلٍ مباشر.