اعتدت منذ سنوات أثناء إقامتي بالسعودية على عدم حمل أي نقود أو وثائق شخصية (هوية/رخص/كروت بنكية) أو حتى المحفظة كاملة، لأن كل تلك الخدمات والوثائق موجودة على الهاتف الجوال في تطبيقات ذكية، وحتى إبراز تحقيق الشخصية الكترونيًا على الموبايل معمول به أمام جميع الجهات الرسمية بما فيها الشرطة والبنوك.

ليلة أمس وأثناء تواجدي أمام الكاشير بأحد مطاعم الأكلات السريعة بمدينة العلا الواقعة شمال غرب السعودية. وأثناء قيامي بعملية دفع الفاتورة بالجوال بخاصية التلامس، لم تفلح عملية السداد. وطلب مني الكاشير الذي كان على عجالة من أمره الإعادة مرة واثنين وثلاثة، حتى قال لي "سم الله" . كل ذلك لم يتجاوز الدقيقة الواحدة.

وفي أثناء ذلك إذا بيد خاطفة وسريعة من وراء ظهري، ولم أرى وجه صاحبها تمتمد من الخلف وبها موبايل، وتلتصق بجهاز الدفع الشبكي وتظهر علامة ونجاح الدفع.

ذُهلت أنا والكاشير، ولأول وهلة ظننته مخطئًا وسدد لي بدلًا من أن يسدد لنفسه. لكنه صافحني بوجه بشوش وقال لي "الناس لبعضها" مش أنتم يا مصريين بتقولوا كده.

بعد استبعاد الفرضية الأولى، اتجه عقلي أنه ربما أحد المعارف القديمة وأن ذاكرتي قد تآكلت بعد الأربعين. أخذت أتأمل ملامح وجهه بدقة خشية أن يكون أحد المعارف، وأنا لا أتذكره، وأصبح في موقف محرج أمام الرجل. كل هذا جال في خاطري لثوانٍ قليلة، حتى تأكدت أن الرجل لا يعرفني ولا أعرفه، وأنه تصرف على فطرته العربية الأصيلة.

شكرته وطلبت منه رقم حسابه لكي أقوم بتحويل المبلغ الذي ليس بالضخم وليس بالنثري أو الهين. رد علي هذا الشاب السعودي الأصيل باللغة المصرية "حتخليني أقولك عيب عليك" ... استأذنته في الانتظار دقيقة كي أسحب له من ماكينة الصراف المبلغ كاش ... رفض رفضًا صارمًا، قائلًا لي "أنت ضيف عندنا وواجبنا هو إكرام الضيف ... حتزعلنا ليه يا عم"

تعرفت عليه، وتبادلنا أرقام الهواتف، وعرفت أن هذا الشاب الكريم العربي الاصيل يدعى "راكان الحربي" وأنه من أهل الرياض. ويعمل في مجال المقاولات. تذكرت أنني في بلد "حاتم الطائي" وليس بمستغرب وجود أمثال هؤلاء الأجواد، وأن جينات الكرم متأصلة وراسخة بهذا الرجل. طلبت منه تشريفي بأخذ صورة للذكرى الطيبة معه.

هذا هو الشعب السعودي الحقيقي أصيل المعدن، الذي يمثل السعودية التي أصبحت دولةً "عظمى" برؤية وإدارة أميرهم الهمام محمد بن سلمان. لمن يعيش بالسعودية ويتابع الأخبار يجد الدولة كل يوم تقدم الجديد في كل المجالات من أجل الرفاهية والتيسير على العباد، وحفظ النظام والحقوق. هذا الكلام حقيقي وليس من باب التطبيل ويعرفه من يعيش بالسعودية الآن. وهذا الأمر يسعد كل إنسان عربي ومسلم يتمتع بالنفسية السوية.

لأجل هذا لا أحد يستغرب اتجاه الصفوة من المثقفين والفنانين ورجال الأعمال للعيش بالسعودية، والحلم بالحصول على إقامتها المميزة والتجنس بالجنسية السعودية. فالسعودية لم تعد مقتصرة على كونها وجهة وسوق للعمالة الكادحة التي تتطلع للحصول على فرص عمل، بل تحولت إلى وجهة كبرى لكل الطامحين البارزين في جميع المجالات. وللأسف فعقول البعض تحتاج إلى عمل "تحديث" لأنها تقادمت، وتوقفت عند الحقبة الزمنية التي كانت المملكة العربية السعودية مقصدًا وسوقًا للعمالة التي تسعى لتحسين ظروفها المعيشية، من خلال الإقامة والعمل بها بشكل مؤقت لفترة من الزمن قد تطول أو تقصر حسب الظروف.