لحظة فارقة في تاريخ الصحافة السعودية، شهدتها الرياض الأحد الماضي، لكنها ليست بمعزل عن حراك بدأ في المملكة قبل بضع سنين، وصار يلفت العالم في مؤشراته، وكتابة تحولاتٍ فاجأت المراقبين في جرأتها ونجاعتها، وهي لما تزل في منتصف الطريق.

في هذا السياق، حدثت مفاجأة هيئة الصحافيين السعوديين، التي تبصر حتى في وجوه المنافسين من أبناء المهنة فرحتهم بها ومشاركتهم الزهو بنجاحها، لأنه وفقًا لما قال صراحة الرئيس السابق خالد المالك «جميع الأسماء المرشحة على مستوى عال من الكفاءة والشغف، وهم القاطرة التي ستدفع الصحافة السعودية إلى مستقبل أكثر إشراقًا وتطورًا استكمالًا لمسيرة الهيئة، والجميع رابح».

سيقول قائل، من الطبيعي أن يذهب جيل التأسيس، ويخلفه آخر من الصحافيين بعد 20 عامًا من تأسيس الهيئة، إلا أن تجارب نقابات ودول عربية عدة، تبرهن على أن ذلك لم يكن هو الشائع. الواقع أن السلاسة النادرة التي حدث بها التغيير والآلية الحضارية التي تم بها، كانت قصة نجاح أخرى من قصص السعودية المبهرة، في هذه المرحلة التي ما زالت تدهش.

أحد أوجه التجربة الراقية التي شهد عليها زملاء المهنة والجمهور عن قرب عبر الشاشات، ووسائل التواصل الاجتماعي، طابع «الوفاء» المتبادل بين الأطراف التي خاضتها، في محطات عدة، مثل تخلي الجيل المؤسس عن الترشح طوعًا قبل أن تبعده الصناديق ذات يوم، وتجانس التكتلات الشبابية الجديدة، خصوصًا في «قائمة المستقبل» الفائزة، وتقبل شقيقتها «قائمة التطوير» النتائج، وسعادتها باللحظة كما لو أن المتزعمين لها لم يفتهم شيء.

وإن رغبت صورة واحدة تختصر روعة المشهد الذي حضر كاتب السطور تفاصيله منذ الصباح الباكر حتى آخر لحظة منه؛ هو تلك المصافحة النقية بين قطب الصحافة العريق خالد المالك، وابن المهنة الشاب خلفه عضوان الأحمري، وكلاهما يتبادلان التهاني بما حقق الأول في مسيرته صحبة رفيق دربه الراحل تركي السديري، وفوز الثاني المستحق بمقعد الصحافة السعودية الأول «بإجماع» فريق أعضاء مجلس الإدارة، في لحظة أخرى من السلاسة لم تستغرق دقيقة.

لا يمكن أن يحدث شيء بكل هذه الروح اللافتة، من دون عمل لذلك وجهود وتنسيق؛ كان للزميل عضوان فيه قصب السبق، فكان اختيار زملاء المهنة له تقديرًا في محله، وتاج فخر لنا أبناء «اندبندنت عربية» والمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام بأسرها، إذ كان سبعة من أعضاء المجلس الـ13 منها، بمن فيهم الرئيس ونائبه.

الروح التي نفختها السعودية في شبابها، كانت حاضرة في دعم التحول الذي صار، إلا أن الكفاءة والعصامية أيضًا هذه المرة كانت عنوانًا قائمًا، فقد بدأ رئيس الصحافيين الجديد من قاع المهنة في صحيفة الوطن، ينحت من الصخر ويقاوم ضغوط التيارات، بل يوظفها وقودًا لعناوينه الحمراء على أعمدة صحيفته، التي أحدثت يومئذ زلزالًا في عالم الصحافة السعودية ورفعت سقف التناول لمستويات ظن كثيرون أنها مستحيلة.

وحين هبت رياح المنتديات والتواصل الاجتماعي، اغتنمها فتفوق فيها وتألق بشعاره الأثير «الحياة سعيدة»، لكنه لم ينس مهنته، فكان أعلى الأصوات في الدفاع عن صنعة الصحافة أن تهان وتبتذل، موظفًا الإمكانات التي أكسبته في الدفاع عنها كما لو كانت المهنة قضيته وعشيرته. وهي أقوال قرنها بالأفعال، يوم بات معلقًا واسع الانتشار على المنصات الدولية، من منطلقات وطنية، ولكن بأدوات مهنية، جعلت لكلمته وزنًا يلقى اهتمامًا واحترامًا.

في حواره الأخير مع الزملاء في بودكاست «سقراط»، لخص مواقفه تلك، وخلفيات اعتزازه بالمهنة، رغم موجة الانصراف عنها إلى «المشاهير»، فكان مما ذكر أن «الإعلام السعودي سيبقى الأبرز والأقوى، لأنه تأسس على خطاب متزن رصين، لذلك هو مستمر ويتطور، وغيره من إعلام الشعارات الشعبوية يسقط».

وبعد أن جرى انتخابه تعهد أن يدفع بتلك الرصانة إلى مستويات أبعد، بأن «يكون للصحافي السعودي حضور عربي ودولي، ورفع تقييم حرية الصحافة السعودية في المؤشرات الدولية»، فضلًا عن توفير غطاء لحماية الصحفي وتدريبه، وتطوير أدواته.

وقد تكون صحيفة «اندبندنت عربية» التي يرأس تحريرها، أحدث شاهد بمحتواها الرصين، على إيمانه بالصحافة والمهنة، على طريقة راهن كثيرون قبل تبنيها على أنها حكر على الصحافة الغربية. وها هي رغم أنها للتو أنهت عامها الخامس، إذا بها تحصد الجوائز وتحقق أرقام انتشار لافتة، تبرهن على أن الصحافة لا تموت، بما في ذلك النوعية، التي «تكمن في التفاصيل» والجرأة والصدقية، بدليل أن هذه المقالة الاحتفائية لن يجيزها رئيس التحرير «المشاكس السعيد» للنشر، طالما تذكر عنه قليلًا مما يستحق.