إذا كانت حضارة العصر العباسي قد ملأت الدنيا وشغلت الناس على مدى قرون، حيث وصلت إلى مرتبة عالية من النهضة العلمية والثقافية والاقتصادية في إطار مناخ مشجِّع من السلاطين والحكام الذين كانوا يسخون بالمال والعطايا على العلم والعلماء، فإننا في إطار هذا المناخ نسأل: ترى هل تفجّرت قرائح النساء (حرائر، وجوارٍ) بالإبداع والكتابة والشعر، أم انحطت أدبياً ووجودياً في ظل انتصار المنطق التجاري الذي شَيَّأ المرأة وجعلها سلعة تُباع وتُشترى؟ وهل إن تشييء المرأة هو الذي أثر على لغتها الشعرية أم أنّ انحطاط المرأة تزامن مع تآكُل الحضارة فانحطَّت شروط تحقّقِها وجودياً؟

لا يزال موقع المرأة في العصر العباسي يثير إشكالية لدى الكثيرين، حيث يرونها في وضعية متحضرة ارتقت خلالها إلى قمة ما تصبو إليه من مال ومنصب وسلطان، فكانت كاتبة للشعر وعازفة للموسيقى، كما مارست الغناء والرقص في القصور وفي مختلف حلقات الغناء والسمر، وهذه الرؤية تتناقض مع عقيدة أن المرأة بلغت درجة من الإذلال الفردي، الأمر الذي حسم مسألة أفول الحضارة العباسية واستمرارها.

لقد اختفت الحرائر عن مسرح الحياة الاجتماعية والأدبية في العصر العباسي بصورة كبيرة، وأُلزمْنَ الصمت في أغلب القصور، ما يُبرِّر اختفاءها عن مسرح الحدث الشعري والأدبي والاجتماعي بشكل كبير. هذا فضلاً عن أن أشعار الجواري وأخبارهن تملأ الصفحات في مختلف مؤلفات الأدب والتاريخ ومصادرهما. وبالمقارنة بين أحوال هؤلاء النساء وأحوالهن في العصر الجاهلي، نجد أن مصدر معظم الأشعار أتى من الشواعر الحرائر. أما الجواري والإماء فكان شغلهن الغناء لا الشعر.

إسهام المرأة الحرّة

وضعية المرأة (الحرّة/ الجارية) في العصر العباسي أمر مثير للجدل، بحيث يتناقض فيه المظهر مع الحقيقة، ومثل هذه الوضعية تتناغم مع منظومة الثنائية الفكرية الثقافية التي يتبناها رجال هذا العصر في إطار علاقتهم بذواتهم وبالمرأة. فالظاهر يحكي عن الرفاهية والبذخ اللّذين تنعَّمت بهما المرأة الحرّة، فيما الحقيقة تشير إلى تراجع موقع الحرائر اللائي أُلزمْنَ الصمت والقصور. كذلك يحكي لنا الظاهر كيف ارتقت الجارية من موقعها (كجارية) إلى مواقع القصور وسلطان الحكام كأم وزوجة للخلفاء، فيما تُطلعنا الحقيقة عن آلاف الجواري اللائي غدون ملك يمين هذا القائد أو ذاك الخليفة، وعن ظواهر الجواري الغلمان، وكساقيات للخمور وعازفات للآلات الموسيقية.

ومُساءلة التراث الأدبي والشعري عن إسهام المرأة الحرّة أو الجارية فيه تكشف لنا عن ماهية موقعها الحقيقي في مجتمعها. وهو تقرير يؤدي حُكماً إلى استبطان معرفة موقع المرأة في وعي الرجال السادة والشعراء، وكذلك مدى إسهامها ودلالة هذا الإسهام في الواقع الأدبي، سلباً وإيجاباً؛ بل إن مجرّد مُقارنة سريعة بين الشعر النسائي في العصر الجاهلي وفي العصر العباسي تجعلنا ندرك أن موقع المرأة الاجتماعي ومستواها الثقافي يُعتبر المرآة التي تنعكس فيها مواصفات هذا المجتمع وشروطه الحياتية.

تشكيل الهوية الجنسيةتشير كتب تاريخ الأدب إلى إشكالية ضياع معظم نِتاج الشاعرات النساء في العصر العباسي، وتُعلِّل ضياع هذا التراث بأن أسباباً اجتماعية قاهرة قد تحكمت بوضع الأديبة العربية. فحركة الجمع والتدوين لتراثنا ثم تأريخه ونقده قد نشطت في مستهل العصر العباسي على أيدي رجال عاشوا بعقلية مجتمع وأد المرأة معنوياً، وعزلها عن الحياة العامة، ومن ثمّ لم يكن لها في تصورهم أن تتحدث عن عاطفتها وتكشف عن أسرار ذاتها.

إن كان هذا هو موقف الرواة في تلك الفترة فما بال المعاصرين لها من أدباء وحكام وأفراد مجتمع؛ حيث إن مجلدات كاملة مفقودة مثل «أشعار الجواري» لمضجع، الشاعر الشيعي المتوفى سنه 327هـ، وكتاب «الإماء الشواعر» لأبي الفرج الأصفهاني المتوفى سنه 356هـ، وكتاب المزرباني «من أشعار النساء» المتوفّى سنة 384ه يولِّد لدينا إحساساً بالفجيعة لفقدان هذا الكم الهائل من الإبداع الشعري للأنثى. ترى هل إن ما بقي مُتناثراً في بطون الكتب يمكن أن يكون صورة تدلنا على معالم هذا الشعر وطبيعته؟

إن فرادة التجربة التاريخية – للمرأة هنا – تكمن في المُتناقضات التي عانت منها من حيث وضعيّتها في الواقع، سواءً أكانت حرّة أم جارية، وهي وضعية مأزقية قامت بدَورها الأكيد في تشكيل الهوية الجنسية بفعل الإقصاء تارة (المرأة الحرّة) وبفعل العبودية (المرأة الجارية) تارة أخرى. وإذا كان للإبداع شرط ثقافي مُركَّب تتعرَّض للحرمان منه الغالبية العظمى من النساء، فهل استطاعت المرأة في العصر العباسي أن تمتلك هذا الشرط أم إن التحرر النسائي لن يأتي من مجرّد التغييرات الثقافية وحدها؟ فهناك أيضاً أوضاع تأسر الروح وتذهب بالإبداع، وقد تخصّ المرأة دون الرجل، لذا قيل إنّ الأوضاع التي يُنتِج أو يُبدِع الرجال والنساء في ظلها تختلف اختلافاً مادياً، ما يؤدي إلى التأثير في شكل ما يكتبه كلا الطرفَين ومضمونه.

ومثل هذه الوضعية كانت بمثابة العائق بكل ما تخبئه من عمليات نفسية لاواعية بالغة التعقيد قامت بدورها في تشكيل الهوية الجنسية. والتجربة التاريخية للمرأة هنا بكل ما حملت من متناقضات – لا يتفق فيها المظهر مع الجوهر – هي تجربة ترصد لنا حجم الخسارة التي تقع على إبداع النسوة في ظل تشوُّه الحياة السياسية. فإذا كانت المرأة الحرّة تعيش في جو من الرقابة الذاتية، فإن المرأة الجارية تعيش في جو من الرقابة السياسية.

وتتبلور مشاعر الإقصاء والعبودية لدى الحرائر ولدى الجواري عبر أغراض الشعر المعتادة في صورة الحزن: فهي إن مدحت أو تغزّلت أو افتخرت أو رثت يبدو الحزن هو الغلالة التي تستتر بها وفيها. وحزن المرأة هنا وليد المعاناة المستمرة والصراع الدائم الذي يتعرَّضن له نتيجة الحرمان من الحياة العامة، حيث ضُرِب عليهن الحجاب في القصور والصمت كتقاليد، فوجدْن أنفسهن مُهدَرات المشاعر، مُهدَرات الوجود العاطفي، إلّا على النحو الذي سمح به لهن الرجال.

أشعار الجواريومع تأمُّل مشاعر الرثاء والفخر والغزل لدى الحرائر والجواري، نجد خصوصية في الموضوعات المطروحة تتناسب وخصائص الأنوثة، لكنها لا تأتي بجديد من حيث جوانب التجربة الشعرية عن الشاعر الرجل. وهنا تأتي أشعارهن من ضمن النسق الشعري المتوارث من الشعراء الرجال من حيث كونها تدور في فلك الرجل اللغوي والفني ولا تسجِّل قوالب شعريّة مُبتكرة. لكن هذه الأشعار، تعكس، على الرغم من ذلك، أسلوباً خاصاً، وعاطفة وشخصية خاصة بالمرأة وضعفها إزاء أفعال الرجل، بحيث تُسجَّل خصوصية في الموضوعات لا في التشكيل الفني. تقول المرأة على سبيل المثال مُعاتبة زوجها إزاء تنكّره لها وجرحه مشاعرها:

يا من يلذذ نفسه بعذابي

ويرى مقارنتي أشد عذاب

لو كنت من أهل الوفاء وفيت لي

 إنّ الوفاء حليّ أولي الألباب

ما زلت في استعطاف قلبك بالهوى كالمُرتجي مطراً بغير سحاب

هل لي إساءة جازيتها

 إلّا لباس حلّة الآداب؟

فالشواعر الحرائر أو الجواري – ومن واقع الأشعار المتناثرة في بطون المصادر وكتب التراث لا من واقع ما ضاع ونفد من أشعار – يتبنَّيْنَ منظور الرجال (الشعراء/ السادة/ الخلفاء)، وذلك حينما ينظرن إلى ذواتهن معيدات صوغ الشكل الهرمي في العلاقات مع هذا الرجل أو ذلك. فهو الأصل والفاعل وهي المهمش المفعول به، وهو ما يؤكد ضياع الهوية الجنسية لهن، وتماهيهن مع الآخر.. الرجل.

إن ظاهر الحقيقة يرصد لنا كيف حصلت المرأة (الحرّة، الجارية) على مكاسب سياسية واجتماعية ومالية. فهي كانت في العصر العباسي الثاني تمسك بمقاليد الأمور وتتحكم بمصائر الرجال. وكان من الأحرى أن ينعكس هذا التفرّد في الواقع على التفرُّد في التجربة الشعرية، وبخاصة في أشعار الجواري. غير أن هذا لم يحدث في فرادة تشكيل التجربة الشعورية لكي تصل إلى حد الاختلاف والخصوصية، وبما يتناسب مع فرادة تجربة المرأة في العصر العباسي وخصوصيتها.

لكن ضياع التمايز والاختلاف في تشكيل التجربة الشعورية هنا يؤكد على انزواء الأنا (في حال الحرائر) وذوبانها في الآخر (في حال الجواري). ومثل هذا الانزواء والذوبان نابع – لا محالة – من خصوصية الموقع الذي تشغله هذه الذات، وما ينتج عن هذا الموقع من معاناة تتسبب في إحداث فقدان أو انقسام داخل الذات، أسهم في عزل المرأة اجتماعياً ونفسياً بطريقة أدت إلى اعتمادها المطلق على الرجل، أو بمعنى آخر جعلها تستمد هويتها من نظرة الرجل إليها.

وتأتي فرادة الجواري في التفاخر بأجسادهن، وفي الإعراب عن تجاربهن الحسية بجرأة وصراحة كدلالة على مدى تبعيتهن لمنظومة الفكر السائدة التي تُشيّئ المرأة وتجعل منها جسداً وأداة للمتعة، في مقابل الإعلاء من شأن الرجل. وهو ما يؤكد حقيقة أن نفسية المرأة ما هي إلا نتاج بنية من المؤثرات الثقافية.

هكذا وقعت الحرائر والجواري في شرك «النظرة الذكورية» إلى المرأة، حيث أعادت الجواري صوغها بالمحاكاة، من حيث اعتبارها جسداً، أو موضوعاً؛ وكأنّ الذكورة هنا – تفرض نفسها إلى الدرجة التي تدفع الشاعرات نحو إنكار الذات الأنثوية أو الاسترجال في النص، محاكاة القصيدة الرجولية شكلاً وموضوعاً.

* ناقدة من مصر

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.