لا شك أن الحرية الفكرية أساسية مهمة للعلم والمعرفة والثقافة، بل هي شرط في المعرفة، وفي الحديث: «لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان» متفق عليه، وقد قاس العلماء عليه الخائف، لما يشتركان فيه من سبب يضعف الفكر، والنظر والرويَّة، فلا يستطيع القاضي حينها أن يتدبر ويفكّر بحرية، وهذا يدل على أهمية الحرية في النظر للقدرة على الحكم، لكنَّ قومًا ممن تسوَّروا محراب العلم، حسبوا أن العلم بنفسه هو الحرية، فأضحى ممكنًا عندهم لمن شاء أن يقول ما شاء.

فقالوا بأنهم يأخذون بالقرآن، ويدعون السنة، وانقَضُّوا على الآيات تفسيرًا، وتأويلًا، وصاروا يستنبطون الأحكام بما يرونه، فخرجوا بغرائب الأقوال، ومستحدَث الآراء، فمنهم من صرَّح أن الصيام على المسلمين تطوع ليس بواجب، ويمكن عندهم أن يخرج المسلم فدية محتجًا بقوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)، وقال بأن الزنا ليس محرما ما دام بالتراضي، وآخر قال بأن حج البيت ليس في مكة، وآخر بأن المسجد الأقصى ليس في فلسطين، وآخر بأن الصلاة لا تسقط عن الحائض، ولا تنقضي تلك العجائب التي لا ضابط لها، ولا شيء يمنعهم فقد فتحوا بابًا جعلوا فيه الحرية هي المضمار، لا الأدلة.

ولو رجعنا إلى التاريخ حتى يتبين أصل مقالتهم، لظهر أن الأمر بدأ على استحياء مع الخوارج، على أنهم لم يجحدوا كل السنة، إنما رفضوا عددًا من الأحاديث بما حسبوه منها معارضة لما في القرآن، وقد جاء الحديث في وصفهم «يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم» فدلّ على عنايتهم بقراءته وملازمتهم له، لكنَّ هذا منهم دون فهم وتدبر، فأصل مقالة الخوارج كانت تجويز الخروج على ولي الأمر، فقالوا بكفر عثمان، وعلي، وإعمال السيف في المسلمين، والشهادة على مخالفيهم بالكفر، وبلغ الأمر ببعضهم حتى قال بقتل النساء والأطفال من مخالفيهم، فجحدوا كل حديث عارضهم في هذا فلم يقبلوا أحاديث فضائل علي وعثمان، والشهادة للعشرة بالجنة، ونبذوا الأحاديث الآمرة بالسمع والطاعة، وكذبوا بالسنة التي لا تجعل الكبائر كفرًا مخرجًا من الملَّة كما ثبت في الصحيح: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك دخل الجنة، وإن زنى وسرق»، وكذَّبوا بأحاديث النهي عن قتل الصبيان والنساء، حتى إنَّ نجدة الحَروري رأس الخوارج في زمنه سأل ابن عباس عن ذلك، فرد عليه كما في صحيح مسلم ابن عبّاس ونهاه عن قتل النساء، وقال له في الأطفال: «لا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علم الخضر»!

وهذا يدل على أن نجدة كان من قبل يحتج بما جاء في القرآن من قصة الخضر مع الغلام، فاعتمدوا على ظاهر القرآن في عدد من المسائل، دون التفات منهم إلى ما في السنة، فلم يفرقوا بين محكم التنزيل، وبين ظاهر مؤول بالسنة، وبين مطلق قيده الحديث، أو آية تذكر شرع من قبلنا في القرآن كقصة الخضر، ثم جاءت السنة ببيان شرعنا فيها، كتحريم قتل الأطفال، وعلى هذا فإن طريقتهم تلك غير علمية، فكيف بمن ورث عنهم هذه الطريقة، فعمم الأمر حتى لا يمكن لأحد التنبؤ بما يمكن أن ينسبه إلى القرآن!

هذا والخوارج تقول بالسنَّة في غير هذه الأبواب، فكيف بمن خرج عنها رأسًا، وزاد عليهم بجحد كل قيد، وكل ضابط من السُّنة، وقد يكون له رأيٌ رآه في مسألة يتراجع عنه غدًا، فيزيد على الخوارج ما الله به عليم! فلعله يستدل بآيات الخسف بأقوام على غيره، أو بقصة إبراهيم أنَّه رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ومهما قال جاحد السنة بأنه لا يقول بهذا أبدًا، فما لدينا إلا كلمته، بأنَّه اليوم لا يقول بهذا، دون ضمان متين ألا يتفتّق اجتهاده عن غيره غدًا!

وقد بين الإمام الشافعي [204هـ] في كتابه (الرسالة) وهو أول كتاب في (أصول الفقه) أن السنة مصدر تشريع بعد القرآن، مدللًا على ذلك بأن القرآن نفسه دل على السنة، منها قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) ومنه قوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) وعقد فصلًا بعنوان: (بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه) ومما ذكره فيه أن «سنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد دليلاً على خاصِّه وعامِّه»، والآيات في الأمر في طاعة رسول الله صلى عليه وسلم كثيرة ذكر جزءًا منها، وهكذا فإن كان القرآن يدل على طاعة رسول الله، فمن دفع السُنَّة فقد دفع دلالة القرآن نفسه.