بعض السرياليّة في قراءة المشهد الرّاهن: لو كان باروخ سبينوزا في زَمَنِنا لَسَأل: "من حوَّلَ هذا الشرقَ من أريكةٍ للملائكة إلى أريكةٍ للحاخامات؟". لنتصوّر لو لم تَظهر إسرائيل بيننا بتلك الذريعة التوراتيّة المُلتبِسة، وبذلك الإعصار الدمويّ؟.. لم يكُن جزءٌ من المكان - ومن عبقريّة المكان- قد زال بقيامِها كما قال لنا المفكّرُ المصريُّ الفذّ جمال حمدان: "ما حدثَ أنّنا بِتنا نُعاني من نقصٍ في الزّمن".

هذا حين نكون في منطقةٍ هزّت بحساسيّتها الجيوستراتيجيّة الأميركي آلفريد ثاير ماهان (1840 -1914)، صاحب كتاب "تأثير القوّة البحريّة على التاريخ"، وقد وصفه المؤرّخُ البريطانيُّ جون كيغان بـ "أهمّ مفكّر استراتيجي أميركي في القرن التّاسع عشر"؛ تنبّأ بأن تكون هذه المنطقة، وهو مَن أطلق عليها اسم "االشرق الأوسط"، أرضَ الأزمات الكبرى في القرن العشرين.

هذا لنَدخل إلى سؤالنا "كيف كان مَسار العلاقات الأميركيّة - العربيّة لو لم تكُن هناك إسرائيل التي فوجِئ بني موريس، وكان من المؤرِّخين الجُدد، كيف تحوَّلت من "وديعة إلهيّة" إلى "وديعة أميركيّة" بعد سنواتٍ من صرخة الرئيس هاري ترومان لدى اعترافه بالدولة العبريّة فَور إعلانها في العام 1948: " أنا قوروش ... أنا قوروش" في تمثُّله للإمبراطور الفارسي قوروش الذي أَنقذ العبريّين من السبي البابلي؟ نُدرِك أهميّة الدَّور الذي قام به البيوريتانز (الطهرانيّون) الإنكليز الذين هاجروا إلى العالَم الجديد، في بدايات النصف الثاني من القرن السّابع عشر، في اختراقِ اللّاوعي الدّيني لدى السكّان الذين كانوا يتّصفون بالهشاشة الثقافيّة والفكريّة.

من سنواتٍ، دعا الأكاديمي الأميركي ديفيد لويد قادةَ الدولة العبريّة إلى عدم الارتهان لجاذبيّة التقاطُع بين الهاجِس التوراتي والهاجس الإسبارطي، وحيث منطق القوّة العمياء لا بدّ أن يفضي، في لحظةٍ ما، إلى السقوط التراجيدي؛ وهذا ما حَدَثَ حتّى للإمبراطوريّات الكبرى.

قطعاً، لا يُمكن لإسرائيل بإمكاناتها الجغرافيّة والديموغرافيّة المحدودة أن تفكّر إمبراطوريّاً، وإن كان باروخ مارزل، أحد أركان حزب "العظمة اليهوديّة" قد قال "لولانا لما كان هناك مَوطئ قَدَمٍ للولايات المتّحدة في الشرق الأوسط". كاد يقول ".. وفي العالَم"!

دَعْ عدوّكَ يستيقظ ميّتاً

لكنْ أَلَم يُلاحِظ المؤرِّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، الأستاذ في جامعة لانكستر البريطانيّة، أنّ "نظريّة مانوارينغ"، التي "فَتَنَت" الجنرال غادي آيزنكوت، انقلبتْ، وبصورة دراميّة، على إسرائيل في ذلك اليوم الهائل من تشرين الأوّل/ أكتوبر الفائت؟

الاستراتيجي الأميركي، وضابط الاستخبارات السابق، أَطلقَ رؤيةً لافتة حول الجيل الرّابع من الحرب، تحت شعارٍ صارخ "دَعْ عدوّكَ يستيقظ ميّتاً"، في أثناء مُحاضرة له ألقاها في تلّ أبيب في أوّل كانون الأوّل/ ديسمبر 2018، بحضور عددٍ من كبار الضبّاط الإسرائيليّين والأطلسيّين. هنا ليس الانقضاض الصاعق على العدوّ قَبل إنهاكه داخليّاً ليتآكل على نحوٍ بطيء، حتّى إذا ما أَزِفت الساعة، تبدأ الحرب الصاعقة التي تَطحن عظامه، مع التحلّل الكامل من أيّ ضوابط أو قيَمٍ أخلاقيّة.

قال "قد تشاهدون أطفالاً أو كِباراً في السنّ قتلى، فلا تَكترثوا، ولا تتركوا الأحاسيس أمام تلك المَشاهد تحول دون تحقيق الهدف".

في الحال، تلقّفت القيادةُ العسكريّة الإسرائيليّة تلك النظريّة التي بوشر بتدريسها في المعاهد العسكريّة. سياسات الإنهاك في الضفّة، بالقتل وبالتنكيل وبالاقتلاع اليومي؛ وفي القطاع من خلال الحصار، لكي تتآكل "الحالة الفلسطينيّة"، ويأكل الفلسطينيّون بعضهم بعضاً، ربّما تطبيقاً لدعوة الحاخام مئير كاهانا "أن نجعلَ منهم أنصافَ البشر". أمّا الإسرائيليّون فهُم، إمّا الآلهة أو أنصاف الآلهة.

ولكنّ أيّ مشهد ظَهَرَ على الأرض في 7 أكتوبر؟ مَن تراه استيقظَ ميّتاً في ذلك الصباح الخريفي؟ المعلّقون كانوا يَستشعرون حالةً من التخلْخُل البنيوي في بعض مفاصل الدولة بسبب الأداء البهلواني للقادة السياسيّين، ولكن لم يكونوا يتصوّرون أنّ الوضعَ كارثيّ إلى ذلك الحدّ.

أكثر بكثير من أن يكون حادثاً طارئاً في دولة لطالما فاخرت بالمواصفات الأسطوريّة لمؤسّستها العسكريّة، كما لمؤسّساتها الأمنيّة. جدعون ليفي تحدَّث عن "هذا الانكسار كمؤشّرٍ على أنّنا في خطواتنا الأخيرة إلى الجحيم". إسرائيل منذ تلك الساعات، لم تَعُد إسرائيل. كثيرون انتَحبوا أمام حائط المبكى، ليسألوا يهوه ما إذا كانت هذه "أجراس النهاية"!

ما يلفت الانتباه أنّ غالبيّة معاهد البحوث في الولايات المتّحدة، بما في ذلك "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى"، بارتباطه باللّوبي اليهودي (الآيباك)، لم تَعُد ترى في "القضيّة الفلسطينيّة" المحورَ الفلسفي والتاريخي لأزمة الشرق الأوسط. إنّها (ويا للغرابة!) "القضيّة الإسرائيليّة".

ألهذه الدرجة باتت مسألةُ "الوجود الإسرائيلي"على الطاولة؟! إليوت أبرامز سَأل بلغةٍ مُتهدّجة، ما إذا كانت نهاية إسرائيل تَعني نهاية الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، ليَستدرِكَ قائلاً: "... لكنّها المنطقة التي تطفو منذ الأزل فوق الدماء". مثل باروخ مارزل، كاد أبرامز يقول "سقوط إسرائيل في الشرق الأوسط يعني سقوط أميركا في العالَم".

حربٌ إلى الأبد

الثّابت أنّ تغيّراً ما حَدَثَ في الرؤية (والرؤيا) الأميركيّة، انطلاقاً من التغيّرات التي حدثتْ على الأرض، وبعدما لاحَظَ الفرنسي أوليفيه روا تداعي المفهوم الإسبارطي للقوّة في إسرائيل، وقد قامَ على الحروب الصاعقة، وعلى الترويع السايكولوجي للعدوّ. هذا المفهوم الذي تكرّس "طوباويّاً" في حرب العام 1967 حين تمكَّن الجيشُ الإسرائيلي في غضون ستّة أيّام - والرقم له دلالاته التوراتيّة - من احتلال أراضٍ في ثلاث دول عربيّة بمساحةٍ تفوق بأضعاف مساحة الدولة العبريّة نفسها. ما تبيَّن في الميدان أنّ الترويعَ السايكولوجي، كعاملٍ استراتيجي في زعْزَعة الآخرين، لم يكُن له أيّ تأثيرٍ على الفلسطينيّين الذين بَدوا وكأنّهم يُقاتلون بعظام موتاهم. كما أنّ مفهوم الحرب الصاعقة تلاشى كليّاً لينجحَ العدوّ في استجرار الدبّابات إلى حرب طويلة، حتّى أنّ بعض الضبّاط والجنود الذين خَضعوا لإعادة التأهيل النفساني أبدوا خشيتهم من أن تكون حرباً إلى الأبد.

هذا ما كَشفتْه "هاآرتس" التي لاحظَت كيف أنّ المُقاتلين الفلسطينيّين، وبإمكاناتٍ محدودة جدّاً، بقوا يقاتلون طوال تلك المدّة، من دون الحاجة إلى إمداداتٍ إضافيّة، في حين أنّ الجيش الإسرائيلي، باحتياطيّاته الهائلة، بدا بحاجةٍ إلى القنابل من اليوم الثالث للحرب. ماذا لو توقَّفت، لسببٍ ما، الطائرات الأميركيّة المُحمَّلة بالذخائر والأعتدة، وبوتيرةٍ يوميّة عن الهبوط في المطارات الإسرائيليّة؟

بطبيعة الحال، تَمتلك إسرائيل مئات الرؤوس النوويّة؛ كما أنّها حقَّقت إنجازاتٍ تكاد تكون خياليّة في مجال الحرب السيبرانيّة. كلّ هذه الإمكانات لم يكُن لها أيّ تأثير عملاني على الأرض. الطائرات والدبّابات كانت تُدمِّر كلّ شيء، من دون أن يؤدّي ذلك إلى حدوثِ تحوُّلٍ حاسِمٍ في مَسار المعركة.

لكنّ الذي يُثير الاستغرابَ هنا أنّ الأرمادا الإلكترونيّة أثبتت فعاليّتها على الجبهة اللّبنانيّة، حيث كانت المُسيّرات تُلاحِق القادةَ العملانيّين، أو المُقاتلين العاديّين، أينما وُجدوا، ليَقَعَ ذلك العددُ الهائل من الضحايا، وبصورةٍ يوميّة.

لا شكّ أنّ حرب غزّة أَحدثت صدمة، إن في الدوائر العسكريّة أو في الدوائر الاستخباراتيّة، حيث يتّجه القادةُ إلى التنحّي بعد أن تضعَ الحرب أوزارَها، من دون أن تكون هناك أجوبةٌ واضحة عن الأسئلة المدوّية. هل ما حدثَ من تقصيرٍ هو نِتاج استخفافٍ مُزمنٍ بالأعداء، أم هو نِتاج خَلَلٍ في الرؤية البعيدة المدى للأمن الاستراتيجي؟

ما يُستشَفّ من مصادر إعلاميّة أوروبيّة على صلةٍ وثيقة بالقيادة الأطلسيّة، أنّ "القضيّة الإسرائيليّة" تَشغل، في الوقت الحالي، أركان الإستبلشمنت من الحزبَيْن. البحث يَتمحوَر حول سُبل تأمين الحماية للدولة العبريّة، بما يتعدّى توجُّه الرئيس جو بايدن إلى إعادة تأهيل الترسانة الإسرائيليّة. مُثير جدّاً أن يتحدّث أنتوني بلينكن عن "الاندماج" في المُحيط. هذه الكلمة تنطوي على الكثير من الاحتمالات التي تعني شيئاً واحداً: أنّ إسرائيل ما بعد 7 أكتوبر 2023، ينبغي أن تكون غير إسرائيل قَبل ذلك. لا دليل على تحقيق ذلك جراحيّاً، وإنّما بالوسائل الديبلوماسيّة.

الأميركيّون، في أكثريّتهم، باتوا على قناعةٍ بأنّ "ايديولوجيا القوّة" التي تُصاحبها مواقف عاصفة حيال أيّ جهة دوليّة تُعطي الأولويّة للتسوية على الصراع، باتت تنعكس بصورةٍ كارثيّة على إسرائيل التي بقيَتْ على مدى أشهرٍ تدور في المتاهة، المتاهة الدمويّة. أين؟ داخل حيّزٍ جغرافيٍّ مُقفل، وتحت الحصار البريّ والبحريّ والجويّ.

حتّى "الفورين أفيرز" تَسأل عمّا يُمكن أن ينتظر إسرائيل إذا ما حاوَلت أن تشنّ الحربَ على جبهةٍ أخرى، وفي منطقةٍ تتشابك فيها الصراعاتُ على أنواعها، إلى الحدّ الذي يَحمل فريد زكريا، الكاتب الأميركي من أصل هندي، على التساؤل ما إذا "كنّا أمام فصلٍ إضافي من "الكوميديا الإلهيّة" لدانتي أليغيري.

ما يزيد في غرابة المَشهد أنّ هناك قوى إقليميّة دأبت على محاولة توظيف التراجيديا الفلسطينيّة لأغراض جيوسياسيّة، عبر ذلك النَّوع من الترسّبات الإيديولوجيّة التي لم يَعُد لها مكان، لا في لغة القَرن ولا في لعبة القَرن. لكنّ مثل تلك "السياسات الضائعة" تَزيد في فوضويّة المَشهد لمصلحة القوى العظمى التي بمُقارباتها الاستراتيجيّة، تَعتبر البلقنة أحد الخيارات لصياغة مستقبلٍ لمنطقةٍ تصرّ على الاجترار العدمي لثقافة الغَيب، تبعاً لقول ريتشارد بيرل إبّان عهد الرئيس جورج دبليو بوش.

نتيجة تلك الترسّبات، تبدّت ليس في زَعْزَعَةِ العلاقات العربيّة - العربيّة فقط، إذا ما أخذنا بالاعتبار هشاشة التشكيل السوسيولوجي لبعض البلدان العربيّة، وإنّما أيضاً في زَعْزَعَةِ العلاقات بين المكوّنات الطائفيّة أو السياسيّة أو الإتنيّة لتلك البلدان.

على الضفّة الأخرى، لنَدَعْ ناحوم ناربيع يُبدي خشيته من أن "يسقط المعطف الأميركي عن أكتافنا لنغدوَ العُراة داخل دوّامة قد تكون البوّابة الاحتفاليّة إلى النهاية".

عباءة هولاكو

ولكن كيف يُمكن إقناع ثلّة المجانين، وقد ذهبتْ بعيداً في التأويل الأبوكاليبتي للنصّ، بالتخلّي عن البُعد الإسبارطي في العقل السياسي كما في العقل العسكري الإسرائيلي، إذا ما لاحَظنا أنّ أولئك القادة يَعتبرون أنّ مجرّد قيام دولة فلسطينيّة هو بداية النهاية للدولة اليهوديّة. لطالما حذّر الحاخام عوفاديا يوسف من "أن نقفل الباب في وجه الماشيح بقبولنا بتفكيك أرض الميعاد ...".

ريتشارد هاس، الرئيس السابق لـ "مجلس العلاقات الخارجيّة"، والمدير السابق لتخطيط السياسات في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، وهو يهودي، يَستبعد كليّاً أيّ خطوة تقوم بها الإدارة لحَجْب المساعدات عن إسرائيل.. يسأل: من أيّ باب يُمكن أن تدخل الديبلوماسيّة إلى تلك الأدمغة "التي تشبه كهف كروبيرا" (كهف قديم في أبخازيا في القوقاز).

المشهد أكثر من أن يكون مُعقّداً. هذا هو الشرق بأثقاله الإيديولوجيّة والتاريخيّة، كما رآه الجنرال الفرنسي شارل ديغول، وهو يتّجه إلى لبنان في أثناء الحرب العالميّة الثانية (آلان بيرفيت، وزير العدل في عهد ديغول). لكن أَلَم يتحدّث غوستاف لوبون، المُستشرِق الفرنسي، عن "السحر القاتل، السحر المقدّس" في المنطقة؟ مثلما آدم حطّ رحاله هنا، حطّ جميعُ الأباطرة رحالهم هنا، بدءاً من الروماني والمغولي والفارسي والعثماني وصولاً إلى البريطاني والفرنسي، ليستقرّ المشهد على كبير الأباطرة (الإمبراطور الأميركي) ويغدو الشرقُ الأوسط باحةً خلفيّة للصراع حول قيادة الكرة الأرضيّة، بعدما كان دافيد بن غوريون يَعتبر أنّ إدارة المنطقة ستنتقل حتماً إلى حيثما يُعاد بناء الهيكل. الحاخام كاهانا هو مَن قال "حيثما تكون أورشليم، يكون الهيكل. لا يكون هناك، لا البيت الأبيض ولا الكرملين..."!

لكنّ إرفنغ كريستول الذي كان أوّل مَن أَطلق تعبير "المُحافظون الجدد"، في مقالة له في العام 1979 (مجلّة "انكاونتر")، اعتبَر أنّ مسألة البقاء في "مقصورة القيادة" هي مسألة وجوديّة بالنسبة إلى الولايات المتّحدة. بعد ذلك بعقود اعتبرَ السناتور لندسي غراهام أنّ الشرق الأوسط كبوّابة إلى القارّات الثلاث (آسيا، أوروبا، أفريقيا)، وبالثروات المُترامية، منطقة فائقة الأهميّة بالنسبة إلى ذلك الصراع الذي يمتدّ من البلطيق إلى الباسيفيك، أي من الشرق الأوروبي إلى الشرق الآسيوي.

لكنّها أيضاً منطقة "الاهتزازات الغامضة"، كما وَصَفَها أرنولد توينبي، ربّما تعقيباً على وصْفِ هيرودوت لها، ومنذ 2500 عام، بأنّها تقع على خطّ الزلازل، ليضيف هنري كيسنجر إلى ذلك.. "على خطّ الحرائق"، بسبب ما وصفه بـ "الفائض اللّاهوتي". في رأيه أنّ ثمّة ضرورة لبلْورة "آليّات فلسفيّة لضبْط الإيقاع"، حتّى لا يتحوّل الأمر إلى سكّينٍ في الخاصرة الأميركيّة... كيف؟

رقصة التانغو مع المستحيل

هنا رقصة التانغو مع المستحيل. واضح أنّ تلك العقود الطويلة من الصراع (ويُفترَض أن يكون، في الدرجة الأولى، الصراع مع الذّات)، قد أرهقَتِ الدول العربيّة. المتاهة الوجوديّة في إسرائيل، بعد ما اعتبره تيودور هرتزل "التيه في الأزمنة"، تُقابلها المتاهةُ في الدول العربيّة، وبعضها حولّته المتاهة، المُبرمَجة أحياناً، إلى حطام.

المُبادرة الديبلوماسيّة العربيّة التي أقرّتها قمّة بيروت في العام 2002 بمثابة الدليل الصارخ على اتّجاه العرب إلى السلام. ولكنْ في اليوم نفسه، وقبل أن تُطوى الأعلامُ من أمام فندق فينيسيا في العاصمة اللّبنانيّة، كانت دبّابات آرييل شارون تَجتاح بوحشيّة مخيّم جنين. آنذاك قال لنا وزير الخارجيّة اللّبنانيّة الراحل فؤاد بطرس إنّ إسرائيل قَطعتِ اليد التي حملت غصن الزيتون.

عودةٌ إلى كلام أنتوني بلينكن حول رغبة دولٍ عربيّة في اندماج إسرائيل في البيئة العربيّة. هنا نعود إلى ما قالَه إدوار سعيد "ليست المشكلة في أن نُقنِع مناحيم بيغن بذلك، بل أن نُقنِع حتّى يوشع بن نون"، وقد جاء في سِفره لبني إسرائيل نقلاً عن الربّ "كلُّ مَوضع تَطأه بطونُ أقدامكم لكم أعطيته... من البرّية ولبنان هذا إلى النهر الكبير، نهر الفرات، جميع أرض الحثّيّين إلى البحر الكبير، نحو مغرب الشمس يكون تخمكم ..."، وحيث دعوته "احرقوا المدينة بمَن فيها"، لنتوقَّف عند قول حزقيال "الربّ يَلعن مَن يَمنع سيفاً من القتل، وملعون مَن يمنع سيفاً من الدمّ".

لكن متى لم يكُن اليهود في أحسن حال في دنيا العرب قبل اغتصاب الأرض؟ من دواوين الخلفاء إلى السيطرة على الأسواق، مع التوقّف عند الحقبة الذهبيّة في الأندلس، حتّى أنّ ضابطاً سابقاً في جيش الجنرال فرنشيسكو فرانكو، وهو من أصلٍ عربي، قال لي في أثناء التقائي به على هامش مؤتمر السلام في مدريد، في خريف العام 1991، بين الدول العربيّة وإسرائيل، "لولا إيزابيلّا لبويعَ يهوديٌّ خليفةً على المُسلمين"، كتأكيدٍ على مدى حضور اليهود، وعلى رأسهم موسى بن ميمون، في البلاط الأندلسي.

في حديثٍ لمجلّة "L'OBS " الفرنسيّة (عدد 8 فبراير 2024)، لاحَظ المؤرِّخ جان - بيار فيليو أنّ الأجيال اليهوديّة الشابّة في الولايات المتّحدة باتت تتّجه يساراً، بعكس السياسات الإسرائيليّة؛ ليضيفَ أنّ القيادات الحاليّة في تلّ أبيب تعتمد، في تاثيرها داخل الدولة العميقة، على المسيحيّين الإنجيليّين الذين يُمسكون بالكثير من مَفاصل القوّة في البلاد.

هنا ثمّة ملاحظة مُثيرة أَوردها فيليو، وهي أنّه عندما بحثت حكومةُ لويد جورج في إعلان بلفور في العام 1917، كان الوزير اليهودي في هذه الحكومة أدوين مونتاغو الوحيد الذي أَعلن اعتراضَهُ على القرار. لنَقرأَ في مكانٍ آخر، أنّه رفضَ ما دعاها "الشعوذة اللّغويّة في مُقارَبة أسفار العهد القديم"، مُشيراً إلى أنّ اليهود ينبغي أن يتعاملوا بعقلانيّة مع جدليّة الأزمنة، كون ثقافة الغيتو لا تَختلف، في أيّ حال، عن ثقافة الكهوف.

بعد كتابه "تاريخ غزّة" الذي نَشره في العام 2012، نحن أمام الكِتاب/ الحَدَث لفيليو "كيف خسرت فلسطين ولماذا لم تَربح إسرائيل؟". في نَظَرِهِ أنّ الدولة العبريّة لم تتعامل منذ قيامها في العام 1948، بالحدّ الأدنى من المنطق مع العرب الذين لا بدّ أن يعيشوا الصدمة التاريخيّة، إذ لم يكُن اليهود يُشكّلون أكثر من 10 % من سكّان فلسطين، ليتَّهِم الحكومات الغربيّة بـ "التواطؤ القاتل" مع القيادات الإسرائيليّة التي اعتمدتْ، كفلسفةٍ للبقاء، خطّ الدمّ الذي، في نَظَرِه، لا يُمكن أن يكون... خطّ البقاء!

فيليو رأى أنّه لو حَدَثَتِ المعجزةُ الديبلوماسيّة، وقامتِ الدولةُ الفلسطينيّة، يبقى الفلسطينيّون هُم الخاسرون لكون هذه الدولة تقوم على جزءٍ يسيرٍ من أرضهم، حتّى إذا ما استُبقيت المُستوطناتُ في الضفّة، سيكونون أمام "الدولة- الزنزانة". مَن يَنظر إلى خارطة الضفّة الآن، لا بدّ أن يلْحظ أنّ إنشاء المستوطنات على ذلك الشكل الحلزوني يَعني أمراً واحداً: احزموا حقائبكم وغادِروا لأنّنا لن نَترك لكم حتّى المقابر!!

أميركا وديعة إسرائيليّة

إذا كانت إسرائيل قد تحوَّلت من "وديعة إلهيّة" إلى "وديعة أميركيّة"، يبدو مدوّياً سؤالُ السناتور بني ساندرز ما إذا كانت أميركا قد تحوَّلت إلى "وديعة إسرائيليّة"، ليُشير إلى "أنّنا استعمَلنا المطرقة في أمكنة كثيرة من المعمورة، كيف لنا أن نتلقّى بكلّ تلك الحصافة المطرقةَ الإسرائيليّة وهي تنهال على رؤوسنا؟".

إذا ما أَخذنا برأي ول ديورانت، صاحب "قصّة الحضارات" لا مجال للرهان على البُعد الأخلاقي لدى الإمبراطوريّات، ولكن ألا يتباهى الأميركيّون بكونهم ابتدعوا تلك التعويذة السحريّة التي تُدعى "البراغماتيّة" في التعاطي مع السياسات الأخرى ومع الاستراتيجيّات الأخرى (ناهيك بالظواهر المعقَّدة)؟ لماذا لا تلجأ الإدارةُ إلى استخدام "التكشيرة الأميركيّة" في التعامُل مع بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، مثلما فعلَ الرئيسُ دوايت إيزنهاور مع كلٍّ من دافيد بن غوريون وموشي دايان، إبّان حرب السويس في العام 1956، مع الفارِق النَّوعي بين تلك القيادة الإسرائيليّة وهذه القيادة الإسرائيليّة؟

هنا نعود إلى قولٍ بالغ الدلالة لهنري كيسنجر حين كان يقوم بجولاته المكّوكيّة بين القاهرة ودمشق غداة حرب العام 1973.. قال "لم تكُن إسرائيل التي تَحظى بدعْمٍ بلا حدود من الولايات المتّحدة مَعنيّة، لا بالحلول الكبرى، ولا بالتسويات الكبرى". ماذا تَغيّر الآن، وبايدن يُلاحقه هاجسُ الولاية الثانية، لكي تَقبل إسرائيل بالحلول الكبرى أو بالتسويات الكبرى؟

ثمّة شيء هائل تغيّر. هذا ما أَقرّ به رئيسٌ سابقٌ للموساد، يوسي كوهين، من أنّ الثقة الأميركيّة بقوّة إسرائيل وقدرتها على حماية نفسها، قد تزعزعت في العُمق، وما على قادة إسرائيل إلّا أن يَعوا هذه الحقيقة، ويأخذوا بالنصائح الأميركيّة. هذا غير وارد البتّة عند أركان الائتلاف الذين يتطلّعون إلى ما هو أبعد بكثير من غزّة، على الرّغم من "كلّ الرمال التي يحملونها على ظهورهم"، بحسب المُحلّل البريطاني ديفيد هيرست.

مُعلِّقون ومُحلِّلون إسرائيليّون بارزون يرون أيضاً أنّ الوقت حان للتعامل بواقعيّة مع الواقع، بعيداً من قعْقَعة السلاح. موشي راز، العضو السابق في الكنيست عن حركة "ميريتس"، إذ يتحدّث عن "الدّرع الأميركيّة" كـ "درع مقدّسة"، يلحظ أنّ ثمّة مؤشّرات كثيرة، بما في ذلك المؤشّرات التكنولوجيّة (الذكاء الاصطناعي كحيوان خرافي آتٍ من كوكب آخر، حسب قول العالِم غاري ماركوس)، على أنّ القَرن سيَشهد تقلّباتٍ دراماتيكيّة، أو عجائبيّة، في مَسار الأزمنة. في هذه الحال، مَن يَضمن أنّ أميركا سنة 2050 ستكون أميركا سنة 2024؟ "قد لا نُبقي شيئاً، لا في الأجندة الأميركيّة، ولا في الذاكرة الأميركيّة".

لكأنّ كلام راز يتماهى مع قولٍ قديم ليوري أفنيري (1923 -2018) الذي كان عضواً في منظّمة الأيرغون، قَبل أن يَجنح ماركسيّاً ليُنشئ حركة للسلام "غوش شالوم" التي دَعتْ إلى السلام "الآن" مع العرب، إلى حلّ الدولتَيْن. آنذاك ووجِه بعاصفةٍ من الغضب حين قال "الدولة الفلسطينيّة هي التي تَحمي الدولة الإسرائيليّة"، مؤكِّداً أنّ العكس ينبغي أن يحصل أيضاً...

مع أنّ المنطقة، كما مناطق أخرى عديدة في العالَم، تدور داخل الحضارة الأميركيّة (على الأقلّ لنَنْظر ما فعلته بنا، ولنا، الشبكة العنكبوتيّة)، أو داخل المشروع الأميركي، وغالباً داخل الدوّامة الأميركيّة؛ ثمّة قوى إقليميّة ما زالت تَبحث عبر الدهاليز، أو عبر القبور عن صفقةٍ ما، ما أَفضى إلى فوضى جيوسياسيّة، وجيوستراتيجيّة. وهي الفوضى العبثيّة التي لا معنىً لها ولا جدوى منها، سوى الاجترار الدرامي للخراب.

كم تبدو ساذجة تلك السياسات التي تَستحضر ما تبقّى من التاريخ، وما تبقّى من الإيديولوجيا، لتُعيد تركيب الإمبراطوريّات، ولو في الخواء!

بعد غزّة، كيف للديبلوماسيّة أن تشقّ طريقَها في وسطِ تلك الأنقاض (أنقاض هيروشيما). رايان كروكر، السفير الأميركي السابق، الذي خَدَمَ في كلٍّ من لبنان وسوريا والكويت، إضافة إلى باكستان وأفغانستان.. رأى أنّ الصدام بالضربات المباشرة بين جو بايدن ودونالد ترامب، يَجعل من أيّ محاولة ديبلوماسيّة نَوعاً من الرقص على رؤوس الثعابين.

أنتوني بلينكن، وتبعاً لما نقله مصدر ديبلوماسي موثوق، اشتكى لأحد نظرائه العرب من أنّ "حكومة نتنياهو تلعب بأعصابنا".

لا نتصوّر أنّ ذلك التقاطُع السريالي بين الضجيج العسكري والضجيج الديبلوماسي، سيَدفع بنا الى هذا السؤال: "أيّ إسرائيل من دون أميركا.. أيّ أميركا من دون إسرائيل؟". هي ديبلوماسية المائة عام، ربّما ديبلوماسيّة الألف عام. المتاهة مشرَّعة على مصراعَيْها.

*كاتب ومُحلِّل سياسي من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.