إننا نعيش في عالم يُبرمجنا على أن القيمة تكمن في التراكم: تراكم المال، والإنجازات، والجوائز، بل والمعرفة. كلّما حصلت على المزيد، توقعوا منك أن تطمح إلى ما هو أعلى. هذه العقلية تصنع بيئة لا تعترف بالثبات، حيث يصبح الوقوف -ولو لحظةً- نوعًا من الفشل، ويصبح الشعور بالرضا نوعًا من التخاذل، ويُفقَد الشعور بالإنجاز. لماذا لا نشعر بالاكتمال؟ في كثير من الأحيان، يكون تأثير الوصول إلى الهدف أقل مما كنا نتخيل. فبدلًا من الشعور بالرضا، نجد أنفسنا محاصرين بشعورٍ غريب من الفراغ، وكأن ما أنجزناه لم يكن كافيًا، أو كأن الفرحة لم تستمر سوى لحظات قبل أن تحل محلها رغبة جديدة.
هذا الشعور ينبع من حقيقة أن الطموح عندما يصبح متطرفًا يفقد قيمته الشعورية. فبدلًا من أن يكون مصدر تحفيز، يتحول إلى مقياس داخلي صارم لا يعترف إلا بالتقدم المستمر. وحين لا تكون هناك نهاية لهذا التقدم، يصبح السعي مرهقًا نفسيًّا؛ لأن التوقف -ولو كان مؤقتًا- يشعر صاحبه بأنه يفقد قيمته. ويُعد استخدام الطموح كآلية للهروب من مواجهة الذات من أخطر الجوانب الخفية للطموح المفرط. هناك فرقٌ كبير بين السعي لتحقيق شيء لأننا نؤمن به، والسعي لأننا لا نريد مواجهة ما نحن عليه في هذه اللحظة. البعض يهرب من الشعور باللا جدوى أو الفراغ الداخلي بالانشغال الدائم بالسعي نحو الأهداف. فهم لا يسمحون لأنفسهم بالمرور بلحظات فراغ.
هذه الأفكار مخيفة لأنها قد تكشف أننا لم نكن نعرف أنفسنا حقًّا، وأن كثيرًا مما سعينا إليه لم يكن نابعًا من داخلنا، بل كان مجرد محاولة لإثبات شيء ما للعالم أو للهروب من إحساس داخلي بالعجز أو الفراغ. وبهذا نتحول إلى ثقافة الإنتاجية، ويصبح الإنسان آلة المجتمع الحديث يعزز بشكلٍ كبير فكرة الإنسان المنتِج، أي: الإنسان الذي تُقاس قيمته بناءً على ما يستطيع تحقيقه وإنجازه. في هذا السياق، لا يصبح الطموح خيارًا، بل يصبح مطلبًا اجتماعيًّا، ومن لا يشارك في سباق الإنجازات يُنظر إليه وكأنه غير ناجح أو غير ذي قيمة. هذه الثقافة تجعلنا محاصَرين داخل عجلة مستمرة من العمل والتحسين والتطوير، دون أن نتوقف لنسأل: هل هذا حقًّا ما نريده؟ أم نحن فقط نخشى أن نبدو أقل طموحًا من غيرنا؟ وهذا ما يجعلنا نصل إلى التراكم بلا معنى: حين يفقد «المزيد» قيمته.
في النهاية، يصبح السؤال الأهم: ما الذي يجعل الطموح منطقيًّا؟ هل هو مجرد السعي إلى تحقيق «أكثر» بلا معنى واضح؟ أم الطموح الحقيقي يجب أن يكون مرتبطًا بشيء أعمق من مجرد تحقيق المزيد؟ المشكلة أن الكثيرين لا يدركون أن التراكم في حد ذاته لا يحقق السعادة. المال، والمكانة، والشهرة، والألقاب، كلها تصبح بلا معنى إذا لم تكن هناك رؤية واضحة لما نريده حقًّا. الطموح الذي لا ينبع من قناعة حقيقية، بل من مجرد الرغبة في السباق، يصبح في النهاية عبئًا يسلب الحياة قيمتها، بدلًا من أن يضيف إليها.
ليس المطلوب قتل الطموح أو التوقف عن السعي، بل المطلوب فهمه. علينا أن نعرف متى يكون الطموح دافعًا صحيًّا، ومتى يتحول إلى نمط استهلاكي نفسي يجعلنا نركض بلا اتجاه واضح. إذا لم نحدد لأنفسنا خطًّا واضحًا لما يكفي وما يستحق السعي إليه، فإن الطموح سيصبح مجرد لعنة تدفعنا إلى السير في طرقٍ لا تنتهي، بحثًا عن شيءٍ لا يوجد أصلًا.