يبدو عالمنا اليوم، كما لو أنه يأكل نفسه بنفسه. فلقد غرقت البشرية في الحياة الاستهلاكية، فصارت الحياة تتطلَّب أشياء كانت تسير من دونها، غير أن طموح الإنسان الذي لا يمكن لجموحه أن يُلجم، جَعله يجنح دائماً بخياله نحو ابتكارات وإبداعات تترجم في غالبها إلى أدوات عيش، مهما كانت الحاجة إليها قليلة أو يمكن الاستغناء عنها. لكن التسويق والمنافسة والسيطرة على الأسواق العالمية، تجعل من رؤوس الأموال مصانع كبيرة تصنع فيها رغبات الناس وتلبي احتياجاتهم في الوقت نفسه. لذلك، وبينما يقف العالم على مفترق طرق لمستقبل غامض، لا يمكن تجاهل أهمية البحث عن مصادر الغذاء المستدامة. تمثل الخيارات التي تتم مناقشتها على مستوى العالم، بهيئاته ومنظماته وحكومات دوله، نظاماً غذائياً أكثر مرونة وإنصافا، وصديقا للبيئة، بدءاً من اعتماد البروتينات النباتية إلى استخدام التكنولوجيا للزراعة العملية. إنه ليس حلّا واحداً يناسب الجميع، ولكنه فسيفساء من الأساليب التي يمكن أن تغير الطريقة التي نأكل بها مُجتمِعة. ما جاع فقير إلا بما تمتع به غني
من المُفارقات التي تَظهر في عالَمِنا اليوم أن مقابل الجوع وسوء التغذية، ثمّة مشكلة أخرى تتفاقم يوماً بعد يوم، وتتمثل، بحسب التوقعات، في أنّ أكثر من 1.2 مليار بالغ سيعانون من السمنة المفرطة بحلول العام 2030. إنّه توزيع غير عادل للثروات ولِحصص الرفاهية ليس على الشعوب فحسب، بل حتى ضمن الدولة الواحدة، فضلاً عن الطبقية الواضحة في جوانب الحياة كافة: طبقة مرفهة تشكِّل الأقلية، وأغلبية تعاني الفقر وتقترب من الجوع.
العالم مقبل على مشكلات كبيرة بالنسبة إلى أمنه الغذائي، من سوء تغذية إلى مجاعات لا يمكن التكهُّن بمداها الزمني والمكاني. لذلك تبحث الدوائر البشرية المعنية اليوم عن مصادر الغذاء المستدامة التي تعدّ ضرورية لحماية البيئة وتعزيز الأمن الغذائي وتحسين الصحة العامة. من هذه البدائل دعم الغذاء بالبروتين الضروري للعضوية البشرية من مصادر أخرى أقل خطراً على البيئة.
من البروتينات النباتية إلى الأطباق الشهية القائمة على الحشرات، يتغيَّر المشهد، اعتماداً على الدراسات العلمية التي تقول إن الحشرات الصالحة للأكل، تُظهر وعدا كبيرا كمصدر مستدام للبروتين. فهي كثيفة من الناحية الغذائية وتحتوي على الأحماض الأمينية الأساسية والفيتامينات والمعادن، وتحتاج إلى الحد الأدنى من الموارد، وبخاصة الأرض والمياه. يتماشى اعتماد الحشرات كمصدر للبروتين مع مبادئ الإنتاج الغذائي المستدام، ما يوفر طريقة لتلبية الطلب العالمي على البروتين، مع تقليل التأثير البيئي المرتبط بتربية الماشية التقليدية. لذا سمح الاتحاد الأوروبي في العاشر من شباط/ فبراير 2025 بدمج مسحوق اليرقات في العديد من الأطعمة المصنعة، قد تصل إلى 4% من الحصة الغذائية، على أن يشار إلى هذا الأمر بشكل واضح للمستهلك على بيانات المُنتَج، كما يدرج في قائمة مسببات الحساسية، لأن استهلاك الحشرات المعالجة بالأشعة فوق البنفسجية، يمكن أن يؤدي إلى الحساسية لدى بعض الأشخاص، بطريقة البيض أو المكسرات نفسها.
ما كان يعد من الأمور المقززة، يترفع الإنسان في كثير من بلدان الأرض عن تناولها، أصبح حقيقة اليوم، حتى لو كان على نطاق جغرافي محدود؛ لكن من يضمن المستقبل؟ للضرورة أحكام، كما ترى الأعراف والتشريعات والثقافات المحلية. ولقد شاهدنا في المناطق المحاصرة خلال الثورة السورية، كيف لجأ الناس إلى تناول كل ما هو بمتناول أيديهم من دون اعتبار لثقافة أو ذائقة أو محرمات؛ فالجوع كافر، والجوع «ألدّ أعداء الكرامة الإنسانية». لكن العادات الغذائية ونواظم الأكل تختلف من شعب إلى آخر.
الحشرات جزء من تاريخ الطهي
من الشائع جدا أكل الحشرات في عديد من البلدان، فحقيقة هذا الأمر بشرياً ليس ممارسة حديثة، كما أنه ليس مجرد بدعة. في الواقع، تعود طريقة الأكل هذه إلى فترة الإنسان العاقل كما تظهر الحفريات والدراسات الأنثروبولوجية، أو حتى قبل ذلك. لذا، فهي ليست حديثة، بل إعادة إدخال طعام منسي من عاداتنا في تذوق الطعام. وبالتالي، هناك العديد من مناطق العالم يتناول فيها أكل الحشرات بشكل يومي ولأسباب مختلفة (نقص الغذاء، عادات الأكل، تراث الطهي، وما إلى ذلك).
في إفريقيا، يعد أكل الحشرات أمراً شائعاً، بل إنها القارة التي تستهلك فيها معظم الحشرات، بعد آسيا، سواء بسبب نقص الطعام أم لأن بعض الحشرات تحظى بشعبية كبيرة بين السكان المحليين؛ حيث يعد النمل الأبيض، ويرقات الحشرات، أكثر استهلاكا بشكل عام. كما أن يرقات الدبابير شائع طهيها وتناولها في مدغشقر. كذلك الحال في أميركا الجنوبية، حيث هناك حشرات مرغوبة ومطلوبة في الطعام، بخاصة النمل (الملكات تحديداً) الذي يتم صيده في وقت التزاوج. أما المشروب الكحولي الرائج جداً Mezcal، فهو مزيج من يرقات دودة الصبار والفراشة.
أما آسيا، فهي القارة التي تتفوق على باقي بقاع الأرض في أكل الحشرات، ولا حاجة لنا في استحضار أمثلة عن هذه العادات الطعامية، لأن مواقع الإنترنت زاخرة بشواهد من مدونات وصور ومقاطع فيديو تصور طهي الجراد والجنادب والصراصير والزيز وديدان النخيل ودودة القز واليرقات، وحتى العقارب وطرق تناولها، ومنها ما يتم تقديمها كمقبلات.
حتى لو تم استهلاك الحشرات بانتظام في مختلف أنحاء العالم، فهي ممارسة لا تزال تكافح من أجل إيجاد مكان لها على مستوى عادات الغذاء في أوروبا، ولكنها تتطور. بدأ الوعي بالحاجة إلى إيجاد مصادر أخرى للبروتين يؤتي ثماره فيما تتغير العقليات ببطء: يسعد الناس بمحاولة تناول الحشرات كمقبلات للشهية أو حلوى الحشرات أو حتى المنتجات الرياضية بدقيق الحشرات.
وبما أن المتاحف هي الأماكن المُعدَّة لحفظ التراث العالمي، المادي وغير المادي، وإشهاره وثيقة عن تاريخ جنسنا البشري، فإن متاحف الطعام متنوعة في العالم، معظمها مهتم ببعض الأصناف التي اكتسبت عراقة وشهرة تاريخية، وبَصَمَتْ هويات بعض الشعوب لناحية وجهها الثقافي، كمتحف «الجُبن» في هولندا، ومتحف «الشوكولا» في فرنسا، ومتحف «كاب نودل» في اليابان المختص بالمعكرونة، ومتحف مختص بتاريخ البطاطا، المقلية منها، في بلجيكا، ومتحف سمك الرنجة في آيسلندا، ومتحف اللحوم المصنعة في أوستن مينيسوتا، الذي يضطلع بالدور الذي قدَّمته اللحوم المصنعة في الحرب العالمية الثانية، وهناك متاحف للخبز أيضاً. لكن في السنوات الأخيرة ظهر نوع من المتاحف يُعنى بالطعام السيئ أو المقزز، ولقد كنت أسكن منذ مدة في البناء نفسه الذي يقع فيه المتحف في برلين، وفكرة متحف الطعام المقزز بدأت في السويد، على يد طبيب مختص في علم النفس، كان قد أسَّس قبله متحفاً أطلق عليه اسم «متحف الفشل»، يحفظ ويعرض أفكاراً لمشروعات أو تجارب باءت بالفشل، وذلك تأكيداً لمقولة أن النجاح يقوم على الفشل والتعلّم من تجارب الماضي. هل يمكن ترويض ظاهرة الاشمئزاز؟
يقول مدير المتحف: هي خبرة علمية واختبار لظاهرة الاشمئزاز، والاشمئزاز أحد الحواس الموجودة لدى الإنسان، ولدى كل الشعوب والثقافات، ومع ذلك فإن الأذواق مختلفة للغاية. بل إنها مختلفة بين مدينة وأخرى في البلد الواحد، لكن الاشمئزاز شعور مشترك بين أفراد النوع البشري، فهل اختلاف الذوق هو ما يغذي الاشمئزاز أو القرف؟
موضوع إشكالي، لكن التحديات أمام البشرية صعبة وتزداد صعوبة مع التقدم والتهديد بشح الموارد الغذائية، وازدياد عدد سكان الكوكب بشكل كبير، فلا بد من الانتباه إلى أن الطريقة التي ننتج بها الطعام ونوزعه ونستهلكه تلعب دوراً مركزياً في مستقبل كوكبنا. لذلك يسعى العلماء والمختصون في البحث عن مصادر الغذاء المستدامة الضرورية لحماية البيئة وتعزيز الأمن الغذائي وتحسين الصحة العامة والقدرة على الصمود الاقتصادي وتعزيز العدالة الاجتماعية.
ماذا عنا، نحن سكان هذه المنطقة المتميزة بعادات وسلوكيات غذائية خاضعة لضوابط متنوعة، وذائقة مرتبطة بهذه الضوابط التي يؤطرها التشريع الديني؟ نحن مهددون بالفقر والمجاعة أيضاً، وهو ما يحصل بالفعل حالياً في أكثر من دولة من هذه الدول، ولن نكون بمعزل عن أزمات العالم، بل نحن في صلبها. فهل سيفرض علينا هذا الواقع الجديد تغييراً في عاداتنا الغذائية؟ لو فكرنا في القواقع أو الضفادع أو المحار أو سرطانات المياه أو غيرها من الأطباق التي نأكلها بالفعل في منطقتنا، ربما سيدفعنا هذا إلى التفكير بظاهرة الاشمئزاز وترويضها مستقبلاً كي نكون قادرين على العيش؛ فنحن، كما البشرية كلها، نقف على مفترق طرق لمستقبل غامض، ولا بد من بداية مؤسسة وهي ضبط استهلاكنا الزائد والهدر في طعامنا، فهذه ظاهرة اتسمت بها مجتمعاتنا للأسف، كي نستطيع ترويض ذائقتنا خلال مدة زمنية كافية.
*طبيبة وروائية سورية مقيمة في برلين
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.