ولهذا تأكد لي موقفي من كتبه التي قرأت بعضها بتدقيق وملاحظة جعلتني أربطه بهايدغر مع نزعة صوفية مؤدلجة أشرت لها سابقاً في مقال (إحياء سيد قطب بأدوات حداثية) المنشور في 25 أبريل 2021. فلما قرأت بعد ذلك مقال الباحث: محسن المحمدي بعنوان: (طه عبدالرحمن واللاشعور الروحي) وجدت فيه مفتاحاً تفكيكياً لمنهجه، إذ يضع المحمدي طه عبدالرحمن تحت (مكر المنوال (البرادايم) الحداثي) حيث يدخل (بنسخة إسلامية مؤولة تأويلاً صوفياً» ضمن (مارتن هيدغر، فيكتور فرانكل، إريك فروم، هوبير بونوا...).
وهنا أستعيد رؤية طه عبدالرحمن المستند في كتاباته إلى نقد حداثي وأيديولوجيا صوفية ورغم ذلك فهو نموذج على أزمة العقلانية السياسية في العالم العربي لدى بعض النخب في حادثة طوفان الأقصى وما آلت إليه حتى الآن، حيث تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين 27 ألفاً، مقارنة بأعلى تقدير لقتلى الجيوش العربية في هزيمة 1967 الذي بلغ (23510).
هذا يعيد النقاش حول استمرار الاستقطاب العاطفي في الشارع العربي بـ(الزعيق القومي) نفسه، تلاعباً بغريزة (الحمية العشائرية) و(النعيق الإسلامي) نفسه، تلاعباً بغريزة (التعصب الديني) منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن، وتنزلق إليه بعض النخب الفكرية تجاه القضية الفلسطينية، وهو ما يضغط على السياسي العربي ويدفعه أحياناً إلى الرضوخ للعاطفة المتكئة على غرائز بدائية في الذات العربية على حساب العقلانية في إدارة الشأن العام، والعقلانية تقتضي التمييز بين (الواقع والمعتقد، الواقع والرغبة، الواقع والحق) كما يلي:
أولاً/ (التفريق بين الواقع والمعتقد): العقلانية السياسية تتطلب القدرة على الفصل بين المعتقد والواقع، وهو ما نراه جلياً لدى المجتمعات الغربية، حيث لم تؤدِ قدسية كنيسة القيامة وكنيسة البشارة وجبل الزيتون إلى حروب عقائدية بين المسيحيين وإسرائيل، بل قبلوا بالترتيبات الإسرائيلية التي تمنحهم إدارة مواقعهم المقدسة دون تصعيد ديني، هذا لأن الدول الغربية المسيحية مارست العقلانية وفصلت الدين عن المصالح السياسية وفق معيار المنفعة.
في المقابل، نجد أن الصهيونية رغم ظاهرها (العقائدي) ليست سوى عملية فصل بين المعتقد والواقع، حيث لا تزال هناك تيارات يهودية عقائدية تعارض الصهيونية بوصفها مشروعاً علمانياً، بينما تستمد إسرائيل قوتها من هذا الفصل الذي يسمح لها بدمج الأقليات العرقية والدينية ضمن مشروعها العسكري والسياسي.
ثانياً/ (التفريق بين الواقع والرغبة): غياب هذا الفصل أدى إلى إخفاقات سياسية في العالم العربي، مثل الوحدة الناصرية بين مصر وسوريا، التي لم تكن مبنية على واقع سياسي متين بل رغبة عاطفية، مما أدى إلى انهيارها، لأن الكبرياء القومي/ الوطني في العالم العربي لا علاقة له بالمعنى الديمقراطي (العقد الاجتماعي/ العقل الحديث)، بقدر ارتباطه بالكبرياء الشخصي للرئيس المفدى بالدم والروح (الحق الإلهي/ العقل العشائري)، على الجانب الآخر، نجد أن القوى العظمى مثل الولايات المتحدة تعرف كيف تفصل بين رغبتها في الهيمنة والواقع السياسي، مما يسمح لها بالانسحاب عند الضرورة (مثل انسحابها من فيتنام) دون أن يؤثر ذلك على قوتها العالمية مع نظام ديمقراطي يسمح عام 1971 بمعارضة الحرب في فيتنام من قبل عسكري سابق كان هناك يدعى جون كيري، بل ويصبح عام 2013 وزيراً للخارجية الأمريكية، وكذلك انسحاب بريطانيا من مستعمراتها دون أن تمس عظمتها، مع (حرب الفوكلاند 1982) إن لزم الأمر.
ثالثاً/ (التفريق بين الواقع والحق): الاعتراف بتأثير الزمن والقوة في إعادة تشكيل الحقائق السياسية أمر بالغ الأهمية، إنكار هذه الحقيقة يقود إلى (قراءات غير واقعية للتاريخ)، فإنكار القوة وأثرها في إقامة نظام جديد للأمور، ومفاعيل الزمن في خلق وإلغاء الحقائق الواقعية يجعل (حق) الهنود الحمر وعددهم خمسة ملايين نسمة غير كافٍ لطرد أكثر من 300 مليون أمريكي من مختلف الأعراق، وهذا التفريق بين (الواقع والحق) يجعلنا نتأمل (آيا صوفيا) ومفاعيل الزمن في إلغاء الحقائق الواقعية أيام كانت (كاتدرائية أرثوذكسية 537م) ثم أصبحت (كاتدرائية كاثوليكية 1204م) ثم تحولت إلى (مسجد عثماني 1453) ثم (متحف فني 1935) ثم عاد جزء منه إلى (مسجد 2020)، يعكس كيف أن الزمن يعيد ترتيب الحقائق وفق موازين القوة. ومثله الوجود العربي في شمال أفريقيا عبر قرون طويلة أصبح واقعاً لا يمكن للأقباط والقبائل الأمازيغية تجاوزه تحت دعوى الحق التاريخي.
وبالنتيجة فإن العلمانية والديمقراطية تمثلان أدوات للفصل، إذ إن هذا الفصل بين (الواقع والمعتقد، الواقع والرغبة، الواقع والحق) هو ما سمح للهند بأن تصبح ديمقراطية علمانية قوية رغم وجود 200 مليون مسلم، و30 مليون مسيحي وملايين أخرى من السيخ وغيرهم، مع أكثر من 800 مليون هندوسي، حيث اعتمدت على معادلة «حق الأقلية وواجب الأغلبية» في نظامها الديمقراطي– بقدر استطاعتها- مما مكنها من تجاوز التعثر السياسي الذي شهدته باكستان المتأثرة بنيوياً بضرورة خلط الدين بالسياسة، دون إعادة تعريف نفسها والعصر الحديث.
هذا التمييز بين هذه الثلاثية هو ما سمح للدول الغربية وغيرها كاليابان - رغم الهزيمة البشعة - والصين – رغم تايوان - بالتطور والازدهار، بينما لا تزال بعض الدول العربية والإسلامية تعاني (الاستقطاب الأيديولوجي) الذي يعيق (العقلانية السياسية)، ما يجعلها رهينة لصراعات – تدميرية غير خلاقة - لا يمكن تجاوزها إلا بقبول (موازين القوى) وإدراك أن السياسة ليست مجرد امتداد (للمعتقد، أو الرغبة، أو الحق) بالمعنى (القروسطي دينياً أو عشائرياً)، لكنها عملية ديناميكية تعتمد على الواقع المتغير باستمرار وفق معيار (عقلاني وبالضرورة علماني)، وبهذا الوعي التاريخي (المتفوق) استغرقت الصهيونية ما يزيد على القرن من العمل الدؤوب في خدمة الفكرة لتظهر على أرض الواقع كتقيؤ كولونيالي (طبيعي) لأزمات الحداثة الأوروبية.