لدينا آلاف الخريجات من تخصص رياض الأطفال ينتظرن فرصة عادلة، مقعدًا وظيفيًا يستحققنه بجدارة. لا يطلبن امتيازًا، بل مجرد عدالة: أن يُمارس التخصص من قِبل أهله. المؤسف أن كثيرًا من معلمات رياض الأطفال، يحملن شهادات في تخصصات لا تمتّ للطفولة بصلة. هل يمكن لغير المتخصص أن يفهم مراحل النمو الإدراكي والانفعالي للطفل؟ أن يفرّق بين نوبة الغضب الطبيعية، وبين بداية اضطراب سلوكي؟ أن يعرف متى يكون الصمت استغاثة، لا مجرد خجل؟

المشكلة ليست في كفاءة هؤلاء المعلمات، فبعضهن قد يكنّ مجتهدات ومخلصات، لكن الكفاءة لا تُقاس بالنية، بل بالعلم. والمتخصصات في رياض الأطفال درسن كيف يُبنى عقل الطفل، كيف يتكون سلوكه، كيف يُمكن تعديل مساره منذ البداية. هؤلاء لم يدرسن التربية كمادة ثانوية، بل كتخصّص دقيق، قائم بذاته، يقوم على فهم عميق للطفل لا بوصفه «تلميذًا صغيرًا»، بل كإنسان في طور التشكل.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تتخرج آلاف الطالبات كل عام، في تخصص مُعترف به أكاديميًا، ثم يُغلق أمامهن باب التوظيف؟ لماذا تُمنح الوظيفة لغير المتخصص، بينما الخبيرة تنتظر دورًا لن يأتي؟ هل هناك خلل في التخطيط؟ أم أننا ما زلنا نعامل مرحلة الطفولة كفترة عابرة، لا تحتاج إلى تأهيل متخصص؟


الطفولة ليست بوابة للمدرسة، بل هي المدرسة الكبرى. وفيها تتشكل قيم الطفل، صورته عن نفسه، ثقته بالعالم، ومهاراته الأولية في التعامل مع المشكلات. إن أي خطأ في هذه المرحلة لا يُمحى بسهولة، وأي تدخل تربوي غير متخصص قد يزرع خللًا يدوم سنوات.

لا نبالغ حين نقول إن مستقبل التعليم يبدأ من رياض الأطفال. وأن من يعلّم الطفل في سنواته الأولى، يصنع خارطة دماغه الأولى. فكيف نمنح هذه الخريطة لمن لا يجيد قراءتها؟ إنصاف خريجات رياض الأطفال ليس مطلبًا وظيفيًا فقط، بل ضرورة تربوية ووطنية.

لنكن صريحين: المشكلة لا تكمن فقط في التوظيف، بل في نظرة المجتمع والمؤسسات التعليمية لمفهوم «رياض الأطفال». كثيرون ما زالوا يعتقدون أن هذه المرحلة لا تحتاج إلا إلى من «يحب الأطفال» أو من يستطيع إدارتهم بوسائل ترفيهية. وهذا اختزال خطير لمعنى التربية في سنوات التأسيس.

الطفل لا يحتاج فقط إلى من يلاعبه، بل إلى من يفهمه. إلى من يدرك أن وراء سلوك الاندفاع غضبًا غير مفهوم، وأن خلف الهدوء الزائد ربما يكمن قلق مكبوت. إلى من يستطيع أن يقرأ في رسوماته ما لا يقوله بصوته، ويترجم دموعه إلى حاجات نفسية وعاطفية. وهذا كله لا يُكتسب من باب الاجتهاد، بل من باب التخصص.

وزارة التعليم اليوم أمام مسؤولية أخلاقية ومهنية. فكما لا يُسمح لطبيب عام بإجراء جراحة قلب، لا يجب أن يُسمح لغير المتخصص بتشكيل عقل طفل. المسألة ليست شكلية، بل جوهرية. فكل مرحلة عمرية لها أدواتها، ولغة تعليمها، وطرائقها النفسية، ولا أحد أقدر على فهم هذه المعادلات الدقيقة من خريجات رياض الأطفال أنفسهن.

ترك هذه الكفاءات المهيأة علميًا، بينما تُملأ الوظائف بأشخاص غير متخصصين، هو نوع من التناقض الإداري، وربما الإجحاف. كيف نرسم رؤية تعليمية مستقبلية، دون أن نؤسس لجذورها البشرية بشكل صحيح؟

ولذلك، يجب أن يُعاد النظر في توزيع الوظائف التعليمية، وأن يُسنّ نظام صارم يُلزم أن تُسند مراحل رياض الأطفال فقط لخريجي هذا التخصص. فهذا ليس فقط عدلًا للخريجات، بل حماية لجيل بأكمله من العشوائية التعليمية.

طفل اليوم، هو مواطن الغد. ومن لا يعرف كيف يربي الأول، لن يُحسن التعامل مع الآخر.