اعتراف بوجود. اعتراف بشخصية لها وجودها التاريخي والنفسي.. ومن حقها أن تستقّل وأن تنمو وأن تشق طريقها. وفق طبيعة ظروفها وأرضها وتاريخها.. على أساس وحدة شخصيتها القومية وتفاعلها الحر مع التراث الإنساني الحضاري الشامل.
وهو ليس (الماضي الحي) من التراث فحسب. بل إنه يعكس فضلًا عن الخلفية الحضارية للمجتمع. الاستعداد المتجدد في الأمة. لتجاوز نفسها باستمرار.
وليس من قبيل المصادفة - كما يرى الدكتور غالي شكري - أن الغالبية العظمى من رواد التجديد في شعرنا الحديث. كانوا من الثوار على مجتمعاتهم المتخلفة الفقيرة. المغلولة في قيد الاستعمار القديم أو جديد. إن بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وأدونيس وأحمد عبد المعطى حجازي.
لم يترددوا في التخلي عن العمود الخليلي. ولم يترددوا في استلهام تجارب إليوت وسان جون بيرس جنبًا إلى جنب مع تجارب ناظم حكمت وأراجون وايلواز وبابلو نيرودا... ولكن التخلي عن العمود التقليدي واستلهام تجارب الآخرين لم يكن (لعبةٍ) من ألعاب الحُواة. فَشِعْر هؤلاء الرواد الجدد قد تفاعل تفاعلًا حرًّا عميقًا مع التراث الأشوري والبابلي والفرعوني والمسيحي والإسلامي، تمامًا كتفاعلهِ مع التراث الإنساني القديم والحديث خارج ديارنا. وكان هذا التفاعل محكومًا بضابط واحد هو معيار الأصالة والمعاصرة في ثورتهم: الواقع بكل ما يشتمل عليه من صراعات وتناقضات. لهذا جاءت أعمالهم «ثورة كامنة «في تاريخ الشعر العربي. أبدعها واقعنا نفسه. قبل أن يستجيب لها الشعراء، وأقبلت عليها الجماهير العربية، قبل أن يستجيب لها الناشرون. وقد كان شعراؤنا قادرين على تقليد السلف أو نقل الغرب كما هو. ولكن عملهم حينذاك - وقد أقدم عليه البعض - مآله السقوط.
وربما كانت أولى المهام التي يتعين على ثورتنا الثقافية أن تباشرها في هذا الصدد، هى أن تنزع جميع ما يحيط بكلمة (التراث) من لبس وغموض، وأن تؤسس منهجًا جديدًا يتناول هذه القضية على ضوء منجزات العصر، وأن تحاول الربط بين متغيراتِ النظر إلى التراث والنظر إلى المجتمع. ربطًا جدليًا عميقًا. ومحكومًا برؤية موضوعية لحركة التاريخ.
على ذلك. فإن طرح موضوع (الأصالة والمماصرة) بمعنى أن الأصالة هي التراث والمعاصرة هي أوروبا. يُعَدْ طرحًا خاطئًا. مبتورًا وضارًا.. إذ يمكن طرح المشكلة على أساس أن الأصالة هي الواقع بكل ما يشتمل عليه من عناصر. من بينها التراث. والمعاصرة هي استخدام المنهج العلمي في التفكير.
لقد ظلت أجيال بعد أجيال في الفكر العربي الحديث، أسيرة هذا التنافس الشكلي المُفتعل بين ذاتنا القومية الأصيلة والحضارة العالمية المعاصرة.
كان السلفيون من أدبائنا ومفكرينا، يرون في التراث ملجأ لهم من الرياح القادمة من وراء البحار، وكان المجددون يرون فيها قوة دائمة للشراع المطوية الساكنة منذ قرون وقرون. وكان المعتدلون يكتفون بالقول: إن قَدَمًا هُنا. وقَدَمًا هناك، تكفل لنا. البقاء فوق أرضنا وأن نتنسم الهواء الجديد في وقت واحد. وقد كان الخلط بين الأصالة والتراث - ولا يزال - هو السبب الحقيقي، لاتخاذ هذه المواقف الشكلية. قبولًا ورفضًا وحلًا وسطيًا.
فلو اعتبرنا الأصالة هي (الواقع) بكل شموله وعناصره. لرفضنا من التراث الشي الكثير. مما يعوق حركة الواقع وتقدمه. وتصبح أصالتنا هي ذلك الرفض الواعي للوجه السلبى من التراث... ولو اعتبرنا (الأصالة) مرة أخرى. هي (الواقع الحى) في الماضي والحاضر والمستقبل لقبلنا مع الآخرين دون عُقَدٍ أو مركبات نقص ما يمكن أن يُوجه حاضرنا إلى آفاق أرحب وأعمق، بل لعلنا نجد لدى الآخرين الذين سبقونا في مضمار التقدم، ما يفتح عيوننا على جوانب من تراثنا، ما كنا لنراها بغير ما اكتشفوه من أدوات البحث العلمي.
وهكذا تتدعم أصالتنا بمزيد من الاختيار الحر، لما في التراث من قيم دافعةٍ لحركة المجتمع، والانفتاح على الدنيا من حولنا، ويظل (الواقع) معيارًا وحيدًا للرفض والقبول، وضابطًا وحيدًا لحركة الاختيار والانفتاح! حينئذ تختفي المعاصرة، كمرادف للاستيراد من أوروبا، وتختفي الأصالة كمرادف للتراث، وتمسي أصالتنا ومعاصرتنا رهنا بموقفنا من واقعنا. تصورنا له وحركتنا داخله، هل نراهُ واقعًا موضوعيًا مستقلًا عن عواطفنا؟ وهل نتحرك به في اتجاه المستقبل؟
1981*
* شاعر وأديب عراقي « 1926 - 1999».