تأتي هذه الزيارة في ظل تصاعد الأزمات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، من تصاعد التوترات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى التعقيدات في لبنان واليمن وسوريا والسودان وليبيا، في وقت تسعى فيه القوى الدولية لإعادة صياغة موازين النفوذ وخرائط التحالفات. لذا، لم تكن زيارة ترمب إلى الرياض مجرّد حدث بروتوكولي، بل محطة محورية حملت ملفات ساخنة ومصيرية، أكدت فيها المملكة أنها أصبحت مصنعًا للقرار العربي ومنصة يُحتكم إليها دوليًا.
وانعقدت القمة الخليجية الأمريكية للمرة الخامسة في الرياض، بحضور زعماء دول مجلس التعاون الخليجي، وشهدت القمة مناقشات معمقة حول الأمن الإقليمي، ومصادر التهديد المشتركة، وملف غزة، والاتفاق النووي الإيراني، إلى جانب تعزيز الشراكة الاقتصادية والتقنية. وقد كان لافتًا تأكيد الرئيس الأمريكي التزامه بالعمل على «مستقبل آمن وكريم» للفلسطينيين، في تصريح يُعدّ تطورًا إيجابيًا في سياق المساعي الدولية لإيجاد حل عادل وشامل.
إلا أن اللحظة الأبرز خلال القمة تمثلت في إعلان الرئيس ترمب رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا منذ 46 عامًا، استجابة مباشرة لطلب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- وهو القرار الذي قوبل بتصفيق حار من القادة الحاضرين، واعتُبر خطوة تاريخية لإعادة سوريا إلى محيطها العربي وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
وأشاد الرئيس الأمريكي خلال كلمته بالدور الاستثنائي الذي يؤديه ولي العهد، واصفًا سموه بأنه «رجل عظيم لا مثيل له»، وأعرب عن فخره بالعلاقة الوثيقة التي تربطه به، مؤكدًا استعداده الكامل لدعم المبادرات التي تقودها المملكة. كما أثنى على النهضة الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها السعودية، خلال السنوات الماضية، قائلًا إن مستقبل الشرق الأوسط يبدأ من الرياض، وأن المملكة أصبحت مركزًا عالميًا للتكنولوجيا والابتكار والثقافة، إلى جانب كونها قلبًا سياسيًا نابضًا للمنطقة.
وشكّل المنتدى الاستثماري السعودي الأمريكي، الذي أُقيم على هامش الزيارة، إعلانًا صريحًا عن دخول العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة من الشراكة الإستراتيجية، حيث تم توقيع عدد من الاتفاقيات الحيوية التي تمسّ مجالات توطين التقنية والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية 2030 ويؤسس لاقتصاد سعودي أكثر تنوعًا وقدرة على المنافسة.
هذه الزيارة، بكل رسائلها ومخرجاتها، تعكس المكانة الرفيعة التي بلغتها المملكة على المستوى الدولي، والتي جاءت نتيجة لرؤية طموحة وسياسات خارجية متوازنة تتّسم بالحكمة والاتزان. وقد برزت ملامح هذه الرؤية من خلال الدور القيادي الذي يلعبه سمو ولي العهد، سواء في إدارة الملفات الإقليمية الحساسة، أو في بناء شراكات متوازنة مع القوى العالمية الكبرى، أو في استخدام أدوات الدبلوماسية الحديثة لتعزيز الحلول السلمية وتحقيق التوازن في العلاقات الدولية.
ومن الخطأ اختزال ثقل السعودية في نفوذها الاقتصادي أو مواردها الطبيعية، فهناك دول تمتلك قدرات مماثلة، بل تتفوّق أحيانًا من حيث الإنتاج، لكن المملكة استطاعت بفضل سياستها المعتدلة ومبادراتها البناءة أن تحظى باحترام عالمي، وأن تكون عنوانًا للثقة والاستقرار في منطقة مضطربة.
لم تكن شهادة الرئيس ترمب مجرّد إشادة، بل إقرارًا دوليًا بأن المملكة باتت النموذج المُلهم في التوازن بين التقاليد والحداثة، وبين الخصوصية الثقافية والانفتاح على العالم، حيث أكد أن ما تحقق خلال السنوات الثماني الماضية لم يكن متوقعًا حتى من كبار المحللين الاقتصاديين، وأن المملكة تجاوزت التوقعات عبر عمل مؤسسي واستثمار ذكي للفرص.
وهذا النجاح لم يكن ممكنًا لولا تلك القيادة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وولي عهده الأمين، التي وضعت المملكة في مصاف الدول الكبرى من حيث التأثير والرؤية المستقبلية.
ختامًا، زيارة الرئيس الأمريكي إلى المملكة لم تكن مجرد حدث سياسي، بل تأكيدًا متجددًا على أن السعودية في هذا العهد الزاهر أصبحت عاصمة الثقة في المجتمع الدولي، ومحورًا لا غنى عنه في جهود السلام العالمي، وواحةً للدبلوماسية المعتدلة التي تسعى دومًا لإطفاء بؤر التوتر، وتقديم صوت الحكمة والعقل في زمن يزداد فيه الاستقطاب والتصعيد.