يتنزّل موضوع الأخلاق منذ زمن الإغريق منزلةَ الأمر المطلوب لذاته، إذ هي الفضيلة التي لا يستقرّ حالُ الإنسان إلّا بها، لكنّ الاختلاف حول مصدرها، وأصلها، وكذلك معياريّتها، لم ينفكّ يَفرض نفسه على المفكّرين المعاصرين، عربًا وعجمًا. وشأن مثل هذه الورقة أنّها تنظر على جهة التأويل في مسألة الأخلاق بمعناها «الدنيويّ» لدى المفكّر الألمانيّ يورغن هابرماس، وذلك في كتابٍ محدَّد له هو كتاب «في أخلاقيّة المناقشة» De l’éthique de la discussion, Les éditions du Cerf, 1992.

يَطرح هابرماس فكرةَ الأخلاق في نطاق وضعيّة «الأمْثَلة»، إذ يتحدّث في سياقاتٍ كثيرة عن «جماعة التواصل المثاليّة» وعن «الإجماع الذي تُحرّكه بواعث عقلانيّة». ولعلّ هذا هو نفسه المنظور الذي نَجده في كتابٍ آخر هو «الحقيقة والتبرير». لكن وضع الأمثلة هذا، كما نجده عند هابرماس، وكارل أتو أبل، وجون راولز، يبقى عنصرًا منهجيًّا ومَلمحًا من ملامح الكانطيّين الجدد قد يلتزم به الفيلسوفُ أو يَبني عليه ويطوّره.

لن نتوقّف في حديثنا عن الأخلاق إلّا عند مستوى ما يُسمّيه هابرماس «بالكونيّة» التي تُتِيحها في نَظَرِهِ البنيات التواصُليّة، حيث تَسمح هذه الأخيرة بإتاحةٍ كونيّة تتجاوز بطبيعتها النّطاقات الضيّقة لكلّ ثقافة ولكلّ عصر. وهنا لا تَختصّ المساءلة الأخلاقيّة بالأسئلة الوجوديّة، والتي قوامها كيف نُحقِّق حياةً خيّرة على شاكلة ما كان يروَّج في التقليد الأرسطي حول الأخلاقيّة، بقدر ما يتعلّق الأمر بهذا السؤال الديونتولوجي (من الديونتولوجيا باليونانيّة أي عِلم الواجبات) الذي يختصّ بالشروط التي يُمكن وفقها لمعيارٍ ما أن تكون له خاصيّة الصلاحيّة، وبالتالي السؤال حول ما هو عدل، وليس ما هو خير، كما دأبت على ذلك الأخلاق الكلاسيكيّة (أخلاق الفضيلة). لا شكّ أنّ الأمر يتعلّق هنا، كما يُصرِّح مُترجِم الكتاب، بتوسيعٍ للفكرة الأخلاقيّة، أو لنقلْ أنْسَنَتها وتطعيمها بالقوّة الحجاجيّة التي تَخضع على الدوام «لألعاب اللّغة»، وبالتالي ربْطها أشدّ ما يكون الربط بنا نحن Nous.


لا يُفهم المنظور الأخلاقي عند هابرماس إلّا في إطار نقده للأخلاق الكانطيّة، حيث يقول إنّ «أخلاقيّة المناقشة ليست نظريّة حول الإلزام l’obligation بقدر ما أنّها نظريّة حول الحُكم Jugement». من الواضح أنّ هابرماس هنا يردّ على الأخلاق التأسيسيّة الكانطيّة (أخلاق الواجب) ويُراهن على نَوعٍ من «تداوليّات المناقشة»؛ أعني لمّا يصبح فحْص الأسئلة «العمليّة» موكولًا إلى اللّغة واستعمالها بغَرَضِ تبرير ادّعاءات صلاحيّة المعايير المُختلفة حجاجيّاً (De l’éthique de la discussion,p.10).

أخلاقيّة المناقشة بين هيجل وكانت

يبدو أنّ هابرماس مطمئنٌّ في حدود معيّنة لفحوى النقد الذي سبقَ لهيجل أن وجَّهَهُ لأخلاقيّة كانت، وذلك في أُسسٍ عدّة:

أوّلها أنّ الأخلاق الكانطيّة صُوَريّة، وذلك أنّ الأمر المطلق يُلزم ويترفّع عن كلّ ما له صِلة بالمضامين المحدِّدة لمبادئ «الفعل»، حيث إنّ تطبيق هذا المبدأ/ الأمر التحليلي في أساسه يُنتج أحكامًا هي بمثابة تحصيل ما يكون حاصلاً.

ثانيها أنّ الأخلاق الكانطيّة كَونيّة مجرّدة؛ لأنّ الأمر المُطلَق يُلزم بضرورة الفصْل بين الكونيّ والخاصّ، إذ إنّ الأحكام الصالحة لهذا المبدأ ينبغي أن تَقع بمَبعَد أو غير مُدرَكة من طَرَفِ الخاصّ، وبالتالي ينبغي أن تكون خارجيّة عن الحالة الفرديّة.

ثالثها اعتراض يخصّ الضعف الذي يميِّز هذه «الإرادة الخالصة»، حيث يبقى السؤال متعلّقًا عند كانط بمعرفة كيف يُمكن ترجمة الأحكام الأخلاقيّة في نِطاق المُمارَسة La pratique.

أخيرًا الرّهبة التي يُثيرها الأمر المطلق، إذ إنّه يقيم نوعًا من الهوّة بين استلزامات العقل العملي وبين مشكلة التصلُّب التاريخي.

بخصوص أخلاقيّة المُناقَشة

يبدو أنّ كانط قد اختار في نظره الأخلاقي المشكلات ذات الصلة بالفعل العادل أو المنصف، وذلك في ضوء مبدأ تبريريّ هو عينه الأمر الأخلاقي: «افعل الفعل وفْق القاعدة التي وفْقها تختار لنفسك ما يكون قانونًا كونيًّا» (De l’éthique de la discussion,p.17). ويَظهر أنّ هذه القاعدة، كما أشرنا، تغدو مبدأ تبريريًّا يُتيح إعطاء الصلاحيّة لقواعد الفعل الكونيّة (أخلاق صوريّة). لكنّ أخلاق المناقشة عند هابرماس تَعتبر عمليّة «المُحاججة الأخلاقيّة» البديل للأمر الأخلاقي الكانطي، كما سنبيّن في حينه. أضف إلى ذلك أنّ «المناقشة العمليّة» عنده هي الضامنة لصلاحيّة المعايير التي يتمّ التوافق عليها من طَرَفِ المَعنيّين، وذلك وفق قاعدة حجاجيّة سليمة. ومن هذه الجهة يتداعى المنظور الذي بنى عليه كانط صرحه الأخلاقي؛ وهو بحقّ منظور داخلي «يأمل» من كلّ فرد أن يُباشِر بالفعل، انطلاقًا من جوّانيّته في نطاق عزلة الحياة الروحيّة. في هذه النقطة بالذّات يُقيم هابرماس نوعًا من التمايُز بين الحُكم الأخلاقي والفعل الأخلاقي، حيث ينبغي فكّ مشكلة «التطبيق» كما أشرنا تحت مسوّغاتٍ هي عقلانيّة وكَونيّة، لكنّها تظلّ تَفترض فكرة تطوُّر المعيار الخلقي، كما هو شأن تطوُّر الفرد في إطار جماعة الانتماء من خلال سيرورة التعلُّم والتنشئة الاجتماعيّة، حتّى لا تبقى الأخلاق بواعث معلَّقة في الهواء.

الإنصات علامة على الأخلاقيّة

لا شكّ أنّ حجج يورغن هابرماس حول الأخلاقيّة التي يُتبيّنُ أمرها في المناقشة، أو قلْ في العمليّة الحواريّة، تبدو وجيهةً إذا ما قورِنت بالأخلاقيّة القديمة، يُضاف إليها الأخلاق الكانطيّة كما رأيناها سابقًا، إذ لا شيء يبدو أكثر رجحانًا في نَظَرِ هابرماس من هذا الحوار بيني وبين الآخر، وهو لعمري الشيء الجوهري منذ سقراط. ولعلّ هذه الأهميّة التي للحوار تنجلي في أوقات الصراع والحروب وسوء الفَهم، فحينئذ تُستشفّ الرابطة الوثيقة بين الحوار والأخلاق، إن لم نقل التسوية التامّة بينهما. وإذا كان هناك شيء يُمكن «توقُّعه»، فهو توقُّعٌ يَنشأ عن الخطاب، وكأنّ للّغة معياريّتها الخاصّة التي يُستشفّ من خلالها نمطٌ للفعل الأخلاقي والعقلاني مُتباين تمامًا عن توقُّعٍ آخر هو توقّعٌ يَجري على مستوى الوعي الخالص؛ هناك حيث يَستعصي بلوغ معياريّةٍ ما على مستوى التطبيق.

وجماع القول هنا إنّ الخطر الذي يترصّد «الأخلاقيّة» على الدوام هو إهمال هذا العنصر «التطبيقي»، أعني أنّ الضّعف والثبات الذي يَسِمُ أخلاقًا للواجب من قَبيل الأخلاق الكانطيّة وغيرها، لا تقدّم سوى «حدوس داخليّة» تَضعها الذّات لنفسها كدعاوى تُبرِّر بها مَسلكًا في الفعل متلبّسًا باستقلاليّةٍ تُغلِّب حضور الذّات على الآخرين في ما يخصّ تحديد المعايير والحُكم وفقها.

لا يُمكن فهْم تأويل هابرماس لفكرة الأخلاقيّة إلّا بشرط خلْق نَوع من التشابُك/ التداخُل بين المبدأَيْن السابقَيْن وهُما: مبدأ الكونيّة (U) ومبدأ المُناقشة (D) بما يحيل عليه هذا الأخير من طاقة عقليّة وحجاجيّة تُستشفّ من منطق اللّغة ذاتها. وإذا كان تصوُّر هابرماس «للأخلاقيّة» يتناسب بحقّ مع المجتمع الغربي اليوم، بما هو مجتمع قائم على «التعدّديّة»، وعلى التقليص من دَور المقدَّس في هذا المجتمع الذي يسمّيه غير ما مرّة بالما - بعد ميتافيزيقي، فإنّ ما يبدو لي مُرجَّحًا على صعيد «التطبيق»، هو أنّ الرابطة بين الأخلاق والحواريّة تبدو قضيّة «معياريّة» خالصة كونها تَكفل للمجتمع أوّلاً صدقيّة التفاعل الاجتماعي بين أفراده وتخلق بيئةً لتهْيئة العدالة في المجتمع، أضف إلى ذلك أنّها تَقِف حاجزًا أمام إمكانيّة سيادة وحُكم «أخلاقيّة» جوانيّة تبقى حبيسة الذات، لكنّها تدّعي من منطلق ذاتها تطبيق العنصر الأخلاقي خارج مجال الذّات. البديل عند هابرماس هو طبعاً قلْب المنظور من الذّات الواعية إلى التفكير في المعيار ذاته، إذ لا بدّ من أن يكون للمناقشة على أرضيّة حجاجيّة متينة الدَّورُ الأساس في تجديد المعياريّة الأخلاقيّة التي ينبغي أن تكون «جماعيّة» لا مجرّد غاية ينشدها الفرد.

*أستاذ الفلسفة بجامعة شعيب الدكالي - المغرب

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.