في زمنٍ تتسارع فيه تطورات التكنولوجيا، وتسيطر الأوامر البرمجية على تفاصيل حياتنا اليومية، يمر الإنسان بلحظة محورية تتجاوز مجرد التفكير في مستقبل التقنية. إنها لحظة يتذكّر فيها تكليفه الإلهي على هذه الأرض، ويتأمل في دوره ومسؤوليته وسط عالم يتغير بسرعة الضوء.

في خضم هذا التحوّل، تتجلّى أهمية الحفاظ على القيم والهوية، والسعي لأن يكون الإنسان حاضرًا بوعي، متفاعلًا مع مستجدات العصر، لا مجرد متلقٍ أو تابعٍ للأجهزة. هذه اللحظة الفارقة تدعو الإنسان إلى إعادة النظر في نفسه، وفي كيفية مواءمة إيمانه مع متطلبات العصر، ليصبح هو القائد والمدير لحياته، لا الآلة التي تسيطر عليه.

وهنا تبرز لحظة فاصلة: لحظة يسأل فيها الإنسان نفسه من جديد، ليس عن مستقبل التقنية فحسب، بل عن مستقبله معها.


هل نحن على مشارف عصر تقود فيه الخوارزميات العالم؟

أم إن أحسنّا الفهم والاختيار، صرنا على أعتاب عصر يقود فيه الإنسان التقنية لا العكس؟

من هذا التوتر العميق بين «الحتمية» و«الإرادة»، كتبتُ مقالتي السابقة: «الذكاء الاصطناعي: بين الحتمية والتحول»، كدعوة إلى أنسنة التقنية، وإلى مقاومة الانبهار الأجوف.

واليوم، أعود للكتابة من المنطلق والهم ذاته، لكن هذه المرة بفرح. فها نحن نشهد، ليس مجرد نقلة تعليمية، بل صحوة حضارية تتجلّى في قرار المملكة إدراج الذكاء الاصطناعي في التعليم العام، لا كمهارة تقنية فحسب، بل كمدخل لبناء إنسانٍ جديد... إنسانٍ يُدرك منذ الصغر أنه ليس تابعًا للآلة، بل خالق لمسارها.

إعلان المركز الوطني لتطوير المناهج، بالشراكة مع وزارة التعليم، ووزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا»، عن إدراج منهج الذكاء الاصطناعي في التعليم العام ابتداءً من العام الدراسي 2025–2026، لم يكن مجرّد تحديث للمحتوى، بل تجسيد لرؤية أعمق ترى أن الجيل القادم ليس مجرّد مستهلك للتقنيات، بل شريك في توجيهها. هذا التوجه لا يسعى إلى تخريج مطورين وحسب، بل إلى تكوين إنسان يفهم التقنية كامتداد لفكره وأخلاقه، لا كأداة منفصلة عن إنسانيته.

لقد فهمت المملكة، في وقت مبكر، أن التحول الرقمي لا يبدأ من البنية التحتية، بل من البنية المعرفية. ولذلك، لم تكتفِ بإدخال التقنية إلى المؤسسات، بل ذهبت إلى حيث تتكوّن العقول: إلى المدرسة، إلى الطفولة، إلى لحظة الفضول الأولى. فحين تطلق «سدايا» في أبريل 2025 مقرر «مدخل إلى الذكاء الاصطناعي» لطلبة المرحلة الثانوية، فإنها لا تختبر فقط جدوى التعليم، بل تؤسس لمسار طويل المدى يُربّي الفكر النقدي، ويغرس الأسئلة قبل الأجوبة. هذا المقرر، وما سيتبعه من وحدات دراسية مخصصة لجميع المراحل، ليس مشروع تدريب تقني، بل مشروع تربوي يربط التقنية بالمسؤولية، والإبداع بالقيم، والبرمجة بالبصيرة.

ما يميز الرؤية السعودية في هذا المسار أنها لا تنسخ تجارب الآخرين، بل تُنتج نموذجها الخاص في توظيف الذكاء الاصطناعي، نموذج ينطلق من مركزية الإنسان، لا من تسليع المعرفة. ولهذا السبب، نجد أن سياسات الذكاء الاصطناعي في المملكة تسير في اتجاهين متوازيين: الأول تقني واستثماري، كما في إطلاق «سماي» كنموذج لغوي عربي سعودي يعكس ثقافتنا وهويتنا الرقمية، والثاني تربوي وإنساني، يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتقنية داخل الفصول الدراسية. هذا التناغم بين الاتجاهين هو ما يصنع الفرق، وهو ما يجعل الرؤية السعودية مختلفة: هي لا تعتقد أن الذكاء الاصطناعي مشكلة يجب أن نلحق بها، بل فرصة يجب أن نُشكّلها بأيدينا.

وحين نُدرّس الذكاء الاصطناعي للأطفال، فإننا لا نُهيّئهم لوظائف المستقبل فحسب، بل نغرس فيهم مفاتيح للسيادة المعرفية. نعلمهم أن يسألوا: من يتحكم بالخوارزمية؟ ما مصدر البيانات؟ من المستفيد؟ ما حدود العدالة في قرارات الآلة؟ ومن يقف خلف كود البرمجة؟ هذا هو التعليم الذي لا يخلق مهارات فقط، بل يبني وعيًا. وهذا هو الجيل الذي نحتاجه: جيل لا ينبهر بالذكاء الاصطناعي، بل يُسائل ذكاءه الخاص في كل مرة يستخدمه.

ما يفعله هذا التوجه التعليمي في جوهره هو إعادة الإنسان إلى صدارة المشهد، ليس كمستخدم للآلة، بل كضابط لاتجاهها. فالذكاء الاصطناعي بلا توجيه أخلاقي ليس إلا سيفًا في مهب المصالح. والرهان الحقيقي ليس في عدد الخوارزميات التي نتقنها، بل في القيم التي نغرسها فيمن يصنعها. من هنا، فإن التحول الذي تقوده المملكة ليس رقميًا فقط، بل فلسفي أيضًا. هو تحوّل في النظرة إلى التعليم، إلى الطفل، إلى المعرفة، إلى المستقبل ذاته.

لا نُدرّس أبناءنا الذكاء الاصطناعي ليُصبحوا جزءًا من المستقبل فحسب، بل ليفهموا أن المستقبل ليس شيئًا ننتظره... بل شيء نصنعه.

هذه ليست مناهج دراسية، بل خرائط وعي. وليست برمجيات، بل بوصلات أخلاق. وليست فقط وحدات دراسية، بل رسائل تقول لكل طفل سعودي: «لست تلميذًا في صفّ التقنية، بل أنت قائد في زمنها».

والآلة، مهما تطوّرت، ستظل تنتظر من يُبرمجها، ومن يُعطيها معنى. هذا المعنى لا تملكه إلا روح بشرية حرة، وعقل شجاع، وقيم لا تتغير مهما تغيّرت الأكواد.

وهذا هو رهان المملكة: ألا نُدرّب جيلًا ليعمل لدى الذكاء الاصطناعي، بل أن نُربّي جيلًا يُلهمه، يُشكّله، ويقوده نحو عالمٍ أكثر إنسانية... جيلًا لا يُرهبه الغد، بل يكتبه.