في أروقة كثير من الشركات والمؤسسات، يدور صراع صامت لكنه عميق، بين الرغبة في التغيير وبين الخوف من خسارة ما تحقق من «رضا» أو استقرار. وبين سعي حثيث نحو التطوير، وتردد واضح في المساس بـ«الهوية» التي اعتاد عليها الموظفون والعملاء والمجتمع. هذا الصراع لا يُدار دومًا بعقلانية، بل كثيرًا ما يكون رهين العاطفة والخوف والحنين إلى ما اعتُبر ذات يوم سببًا في النجاح. في بيئات العمل، يُنظر إلى «الرضا» الداخلي أحيانًا بأنه مؤشر أمان. فحين تسير الأمور بسلاسة، دون شكاوى حادة أو مشكلات جوهرية، تميل الإدارات إلى تأجيل التغيير أو حتى مقاومته، خوفًا من أن يخلخل هذا التوازن. لكن الحقيقة أن هذا الرضا غالبًا ما يكون زائفًا، أشبه بمنطقة راحة لا تُظهر ما يعتمل تحت السطح من ركود أو بطء في التفاعل مع المتغيرات في السوق والبيئة التنافسية. الخوف من التغيير ينبع في الغالب من انعدام اليقين. من الطبيعي أن تتردد مؤسسة ما في تغيير نظام عمل أو هوية بصرية أو إستراتيجية اتصالية كانت لفترة طويلة جزءًا من بنيتها. لكن السؤال الأهم: هل الاستمرار كما نحن هو الخيار الأكثر أمانًا؟ أم أن الجمود في زمن السرعة هو أقصر طريق إلى التراجع؟

الهوية المؤسسية ليست مجرد شعار أو لون أو نغمة صوت في الإعلانات. هي منظومة من القيم والسلوكيات والانطباعات. لكن هذه الهوية أيضًا ليست مقدسة. فالثبات في الجوهر لا يعني الجمود في الشكل. كثير من الشركات الكبرى أعادت تعريف نفسها عبر السنين، غيرت شعاراتها، وطورت رسائلها، وأعادت رسم علاقتها مع جمهورها، لا لأنها فقدت هويتها، بل لأنها أدركت أن الهوية الحقيقية تُصقل بالتجربة، وتتكيف مع الزمن.

الخطر الحقيقي ليس في تغيير الهوية، بل في تغييرها بلا رؤية أو مبرر؛ لأن التغيير من أجل التغيير فقط، دون فهم عميق للسوق والجمهور وثقافة المؤسسة، قد يقود إلى تشويش داخلي وخارجي، يضر أكثر مما ينفع.


ما تحتاجه المؤسسات اليوم ليس الثقة العمياء في القديم، ولا الاندفاع غير المحسوب نحو الجديد. بل تحتاج إلى قيادة تمتلك شجاعة السؤال: هل ما نحن عليه اليوم يخدم ما نريد أن نكون عليه غدًا؟

هذه الشجاعة تتطلب الاستماع إلى صوت الداخل (الموظفون، الثقافة، العمليات)، وصوت الخارج (السوق، العملاء، المنافسون). حينها فقط يصبح التغيير قرارًا إستراتيجيًا لا رد فعل، وحينها أيضًا، تصبح الهوية أداة للتميز لا عبئًا يجب الحفاظ عليه بكل الأحوال.

الخوف من التغيير مفهوم ويمكن استيعابه، بل طبيعي. لكن الإصرار على البقاء في المألوف بدعوى الحفاظ على الاستقرار قد يكون مكلفًا. والتغيير ليس نكرانًا للهوية، بل قد يكون الوسيلة الوحيدة لحمايتها وإبقائها حية ومؤثرة. لأن المؤسسات، مثل البشر، إما أن تنمو وتتجدد... أو تذبل وتموت بهدوء.