في السنوات الأخيرة، بدأ مفهوم الصحة النفسية يتجاوز حدود العيادات والجلسات العلاجية، ليصبح قضية عامة تمس حياة كل فرد ومؤسسة ومجتمع. في السعودية، يكتسب الموضوع أهمية مضاعفة، مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة، وضغوط الحياة العصرية، والانفتاح على أنماط معيشة جديدة. لكن السؤال الجوهري هو: كيف ننتقل من مرحلة الوعي الفردي بأهمية الصحة النفسية إلى مرحلة الدعم المؤسسي الذي يحول هذا الوعي إلى واقع ملموس؟

لا يمكن الحديث عن صحة نفسية طبيعية دون وعي على مستوى الأفراد. الوعي هنا لا يعني فقط معرفة أعراض القلق أو الاكتئاب، بل يشمل إدراك أن الصحة النفسية جزء أصيل من الصحة العامة، وأن الاعتناء بها لا يقل أهمية عن متابعة ضغط الدم أو نسبة السكر.

خلال السنوات الماضية، انتشرت الحملات التوعوية في وسائل الإعلام ومنصات التواصل، وبدأ الناس يتحدثون عن «الاكتئاب» و«القلق» و«التوتر» بجرأة أكبر. لكن هذا الوعي، رغم أهميته، يظل ناقصاً إذا لم يُدعم بقدرة الفرد على الوصول إلى خدمات نفسية ميسرة، وبيئة اجتماعية ومهنية تحترم احتياجاته النفسية والعاطفية.


الدعم المؤسسي هو المرحلة التالية والحاسمة. فحتى لو كان الفرد واعياً بمشكلته، فلن يتحسن وضعه إذا لم يجد استجابة من مؤسسات التعليم والعمل والرعاية الصحية.

في بيئة العمل مثلاً، يمكن لبرنامج مساندة الموظفين (EAP) أن يكون الفارق بين موظف ينهار تحت الضغط، وموظف يتلقى دعماً نفسياً يرفع إنتاجيته ويعزز انتماءه للمؤسسة. وفي المدارس والجامعات، يمكن لوجود مرشدين نفسيين مؤهلين أن يغيّر مسار حياة شاب أو شابة، قبل أن تتفاقم مشكلاتهم إلى أزمات.

خلال رؤية المملكة 2030، أدرجت الصحة النفسية ضمن خطط تطوير قطاع الصحة، مع التركيز على دمج خدماتها في الرعاية الصحية الأولية. كما شهدنا توسعاً في عيادات الصحة النفسية، وتطوير منصات رقمية للاستشارات عن بُعد، وتكثيف برامج التدريب للكفاءات المحلية في العلاج النفسي.

لكن لا تزال هناك فجوة بين حجم الحاجة إلى هذه الخدمات وتوافرها، خصوصاً في المناطق البعيدة عن المدن الكبرى. التحدي الآخر هو إزالة ما تبقى من وصمة اجتماعية تجاه طلب المساعدة النفسية، وهي وصمة بدأت تتلاشى لكنها لم تختفِ تماماً.

السياسات الوطنية للصحة النفسية لا ينبغي أن تكتفي بتوفير العلاج بعد وقوع المشكلة، بل يجب أن تركز على الوقاية، من خلال: سن قوانين تضمن ساعات عمل متوازنة، وإجازات كافية، وحماية من بيئات العمل السامة. دمج برامج التثقيف النفسي في المناهج التعليمية منذ المراحل المبكرة. تشجيع الأنشطة المجتمعية التي تعزز الترابط الاجتماعي وتقلل العزلة. دعم الأبحاث المحلية حول أسباب وأنماط الاضطرابات النفسية في المجتمع السعودي.

نجاح أي إستراتيجية وطنية للصحة النفسية يتطلب تكاملاً بين الوعي الفردي والسياسات المؤسسية. فالوعي دون دعم مؤسسي يظل عاجزاً عن إحداث التغيير، والسياسات دون وعي شعبي تتحول إلى إجراءات شكلية لا تجد تفاعلاً على أرض الواقع.

هنا يأتي دور الإعلام، والمجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية، والقطاع الخاص، في بناء جسر يربط بين المعرفة والتطبيق، بين الحاجة والحل.

الصحة النفسية ليست ترفاً فردياً ولا قضية هامشية، بل هي ركيزة أساسية لقوة المجتمع واستقراره. المواطن الذي يتمتع بصحة نفسية جيدة هو أكثر إنتاجية، وأكثر قدرة على المشاركة الإيجابية في تنمية وطنه، وأكثر استعداداً لمواجهة التحديات.

ومن هنا، فإن الاستثمار في الصحة النفسية ليس استثماراً في رفاهية الأفراد، بل هو أيضاً استثمار في أمن واستقرار وتقدم السعودية، اليوم وغداً.