تقول مستغانمي: «هذا الرجل يَكتبني ويَمحوني بقبلةٍ واحدة... يجتاحني بشراسةٍ مفاجئة، يَلتهم شفتي مُبتلِعاً كلّ ما كنت سأقوله له؟... ماذا تراه فاعلاً بي؟ تراه يَرسم بشفتَيْه جسدي؟ أم يَرسم قَدَري؟ تراه يُملي عليَّ نصّي القادم؟ أم تراه يُلغي لغتي؟».
هذا النمط من الكتابة، التي يعنيها السؤال بالدرجة الأولى، يأتي كحالةٍ من حالات الانبثاق من الصمت أو انفجار السكون، لتحقيق فعل الخروج على السائد، أو الولوج إلى مُغامرةِ لغة الاختلاف التي تُحوِّل المسلّمات إلى مسائل أو إشكاليّات.. وهذه النظرة تَضعنا في موضع القدرة على التفكير حول تفكيرنا.
لذا يُحاول النصّ إثارةَ عددٍ من الإشكاليّات حول الذّات في علاقتها بالوطن، وفي علاقتها بالآخر، وأخيرًا في علاقتها «بالأنا»؛ لذا تبدو إشكاليّات «القسمة الثنائيّة» أو «الازدواجيّة» على قائمة تلك الإشكاليّات!.. ويكفي أن نُثير هنا إشكاليَّتَها مع الذّات، وما حلَّ بها من انقسام، ولكن كيف كان الخروج؟ تقول:
«ما كدتُ أصل إلى البيت، حتّى أسرعتُ بخلْعِ تلك العباءة، وأَعَدْتُها إلى صاحبتها عساني أتصالح مع جسدي... فأنا استعير كلّ مرّة ثيابَ امرأةٍ أخرى، كي أواصل الكتابة داخلها».
والكتابة هنا تَكشف الذّاتَ أمام ذاتها، تُشرِّحها، بل وتدلّ عليها، والانقسام هو ما حلّ بالذّات، والذّات تعيه وتسعى جاهدةً للمقاومة، وقد انتقلتْ إليها عدوى الانقسام.
هكذا يَصل الوعي إلى درجة نقد الذّات وتعريَتِها دونما مُوارَبة، وفي هذا: تفجيرٌ للمكبوت والمَخفيّ، بهدف خلْق الحوار مع الآخر، الذي تُحبّه لكنّه دخلَ «دَير الصمت، واختصر اللّغة حتّى لم تعُد تتجاوز كلماته بضع كلمات تُراوح بين: «حتمًا»، و«قطعًا»، و«طبعًا»، و«دومًا». وتتساءل: «كان هَمّي أن أعرف لماذا؟».
وهنا يأتي السؤال كمقدّمة تَهدف إلى التصالُح مع الآخر، وحلّ التناقضات معه، بخاصّة وهي تحاول أن تَعي أنّها في حاجةٍ «إلى أن تنعكس انعكاسًا حقيقيًّا في ذاتٍ أخرى، وأن تتأكَّد وتتحقَّق بواسطة ذاتٍ أخرى». كما تُدرِك أنّ الوعي بالآخر إنّما هو امتداد للوعي بالذّات... وأنّ الدَّور الذي يلعبه «الآخر» في توجيه حركتِنا دَورٌ مزدوج.. فهو بنّاء وهدّام، دافع وحائل، مباشر ومُلتفّ، حاضر وقابل لفتنةِ الغياب، بيد أنّه في الحالات كلّها يضيء لنا صورة «الأنا».
هكذا يُفضي السؤالُ إلى الوعي، من حيث كونه أصبح وعيًا يُحاول أن يؤسِّس نوعاً جديداً من الكتابة أو ما نسمّيه: الوعي الضدّي، حيث تَطرح فيه الذّاتُ السؤالَ عن نفسها في الوقت الذي تَطرحه على غيرها، إنّها كتابة الأزمة، أو الكتابة الإشكاليّة، الكتابة التي لا تبدأ من اليقين والإذعان، بل تبدأ من السؤال، من لحظة الشكّ في نفسها وفي مَن حولها.
وفي النصّ نَجِدُ أنّ الكاتبةَ تتّخذ من السؤال صيغةَ حياةٍ ومعنى وجود، تقول: «أمشي وتمشي الأسئلة معي. وكأنّني انتعل علامات الاستفهام». وهي حين تَصف نفسها تقول: «منذ الصغر كنتُ فتاةً نحيلة بأسئلةٍ كبيرة، وكانت النساء حولي مُمتلئات بأجوبةٍ فضفاضة... كنتُ أنثى القلق، أنثى الورق الأبيض، والأَسرّة غير المرتّبة، والأحلام التي تَنضج على نارٍ خافتة... أنثى عباءتها كلمات ضيّقة، تلتصق بالجسد، وجملٌ قصيرة لا تُغطّي سوى ركبتَيْ الأسئلة». فالسؤال هنا علامة نبوغ، ومَعلم شخصيّة! وهي تقول في روايتها «فوضى الحواسّ»: «أتحدّى القتلة شاهرةً التهمتَيْن اللّتَيْن جمعتْهما: تهمة الأنوثة، وتهمة الكتابة. تلك التي كانت تحدّيًا صامتًا في يدي ودفترًا مُغلقا على قصّة. الكتابة فيها هي البطل الرئيسي». في هذا النصّ يتسنّى للكاتبة أن تكون فاعلة، والفعل هنا هو الكتابة، تقول: «منذ البدء خلقتُ لأكون كائنًا من ورق وحبر». وتواصل الاعتراف: «كنتُ كاتبةً بنزعاتٍ إجراميّة، تَجلس كلّ مساء إلى مكتبها، ودون شعور بالذنب تَقتل رجالاً لا وقت لها لحبّهم وآخرين خطأً أحبَّتهم، تَصنع لهم أضرحةً فاخرة في كِتاب، وتَذهب للنوم». ومَكمن الجريمة هنا يتمثَّل في سطوها المسلَّح بالكلمات على اللّغة (مَملكة الرجال)، بخاصّة أنّها امتلكَت الحجّة/ السؤال، وغَدت «ذاتًا نصوصيّة تؤلِّف وتَكتب، بل وتُبادِل الرجل لغة بلغة».
وفي إطار هذه النّزعة الإجراميّة تمّ تحويل الرجل إلى مكتوب، حينئذ تمَّ تحرير اللّغة من سلطته، ومثلما يحدث في كلّ حالة تحرير، فإنّ المُتحرِّرة (اللّغة) تُصبح بطلة وتَنتشي ببطولتها الصادرة عن حريّتها الجديدة بعد استعمارٍ طويل. وهذا الكاتب الفاعل صار مكتوبًا مفعولًا به، ما رَفع سلطانه عن النصّ، فصارتِ اللّغةُ حرّةً من جهة، وصار للمرأة مجالٌ لأن تُداخل الفعل اللّغوي، وتُصبح فاعلةً فيه. ومن ثمّ تُصبح اللّغة هنا هي البطل الحقيقي للنصّ، ويَصير التوحُّد بين الكاتبة واللّغة، أو بين الذّات الأنثويّة واللّغة التي صارت أنثى - على يد هذه الكاتبة - أو بين «الأنثى خارج النصّ والأنثى التي في داخله. ولم تَعُد المرأةُ مجرّد مادّة من موادّ اللّغة، بل صارت المؤلِّفة والبطلة، ولم تَعُد مجرّد فتاة غلاف، وإنّما هي جوهرة النصّ وأصل الخطاب».
العلاقة الجديدة هنا هي بين المؤلِّفة «أحلام مستغانمي» والبطلة أحلام/ حياة. وهذا التوحُّد في الاسم، يوشي بعلاقةٍ جديدة قوامها الاتّحاد العضوي بين الاثنتَيْن، تقول: «كيف لي بَعد الآن أن أكون الراوية والروائيّة لقصّةٍ هي قصّتي؟».
من الوعي بالكتابة إلى الوعي بالنقد
إنّ وعي الكاتبة هنا يَتجاوز الوعي بالكتابة إلى الوعي بالنقد، من حيث إنّ «تصدير النصّ باسم المؤلِّف لم يَعُد رمزاً لأبوّة هذا النصّ، ولم يَعُد هو الذي يُشكّل بدايته أو غايته، وإنّما هو يزور النصَّ كضيفٍ ليس إلّا. وهنا يتمثَّل مبدأ «رولان بارت» الذي تعيه الكاتبة وتورِد اسمه في الرواية.
حضور المؤلِّفة في نصَّيْ «ذاكرة الجسد» (1993)، و«فوضى الحواسّ» (1997) بالاسم نفسه، وبالشخصيّة نفسها، وبالرؤية نفسها، يكاد يكون أمرًا مصيريًّا في النصّ، ففيه تتقرَّر أنوثةُ النصّ، وأنوثةُ اللّغة، وبما أوجب توحيد اسم المؤلِّفة مع اسم البطلة (أحلام) وتحقيق دلالةٍ عضويّة مصيريّة بفعل هذا التوحيد.
يُحيلنا ذلك إلى «التناصّ» في هذا النصّ، والنصّ الآخر لأحلام مستغانمي، وتحديدًا «ذاكرة الجسد»؛ حيث يُعَدّ «فوضى الحواسّ» امتدادًا طبيعيًّا له. فثمّة وحدة عضويّة تَجمعهما عائدة إلى جذور الشخصيّات، ومنهج الكتابة، بالرّغم من الفواصل القائمة بينهما على مستوى الأحداث، تَجعل كلّاً منهما نصًّا قائمًا بذاته المُستقلّة.
يُمكن القول بعبارةٍ أخرى إنّ نصّ «ذاكرة الجسد» يُعَدّ نصًّا مُنفتحًا لتلقّي نصّ «فوضى الحواسّ»، كما يُعَدّ هذا الأخير مُنفتحًا لتقبُّلِ النصّ الآخر، لأنّ كليهما ينتقل إلى الآخر بواسطة لازمتَىْ الاختلاف والإرجاء أو إلى حضور مغاير، يَجعل من مكان الكتابة، كما يُشير «رولان بارت»، مكانًا للارتحال في أُفقٍ لا يُحَدّ، وهذا الأفق هو الذي جَعَلَ نصّ «ذاكرة الجسد» مفتوحًا لتلقّي نصّ «فوضى الحواسّ».
إنّ وعي الكاتبة بالكتابة سَرَّبَ إلى لا وعيها أهميّةَ قلْب الخطاب لاستعادة الأنوثة له. وفي إطار منظومةِ قلْب الخطاب، يتغيَّر موقعُ الرجل من مَوقع السؤال إلى موقع الإجابة، يقول: «تصوَّري.. كنتُ أريد منكِ أجوبةً لا أكثر، ولكنّ الحياة كانت تُعِدُّ لي دَورًا مُعاكسًا... انقضى هذا الكتاب وأنا أردُّ على أسئلتكِ... أعتقد أنّكِ كنتِ تَكتبين لقلْب الأشياء عندما اخترتِ بطلاً فاقد الذراع». هكذا يتغيَّر موقع المرأة من موقع المُنتظِر/ السلبيّ إلى موقع المتقدِّم/ الإيجابيّ، يقول لها: «هذه أوّل مرّة تَطلب فيها امرأةٌ يدي».
وهكذا يتخلَّص نصُّ «فوضى الحواسّ» من الشعور بالذنب، لأنّه يتجاوز مرحلة تجريم الحبّ، وتأثيم الجسد؛ تقول: «في المتعة كلمة سرّ، وشيفرة جسديّة، تَجعل من شخصٍ عبداً للآخر دون عِلمه... وهذا الرجل الذي... لم أكُن أملك القوّة، ولا الرغبة في مُقاومته، كنتُ أجد متعتي في اندهاشي به...».
* كاتبة وناقدة من مصر
* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي