منذ شهور طويلة أصبح سوء التغذية أمراً شائعاً في القطاع، ونبّهت تقارير منظمة الصحة العالمية ووكالة «الأونروا» مراراً إلى استشراء الأمراض الناجمة عنه، بالتزامن مع التدمير المتعمّد للنظام الصحي ووجود عشرات آلاف الحالات التي تتطلب إجلاء للعلاج في الخارج. وعندما ظهرت مؤشرات المجاعة دقت منظمات الإغاثة نواقيس الخطر، لكن «لجنة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي» تأخّرت شهوراً عدة قبل أن تقرر أخيراً أن كل معايير المجاعة قد تجمعت، ولم تأخذ في الاعتبار أن النقص الحاد في الغذاء والمواد الأساسية، خصوصاً حليب الأطفال، كان يقتل ببطء وبصمت زارعاً أمراضاً شتى لن تُشفى أو تزول حتى لو توفر الطعام بكميات كافية وبشكل منتظم، لكنه لن يتوفر. ومع أن إسرائيل خادعت بأنها خففت قيودها نسبياً، إلا أن إحصائية أممية أفادت أخيراً بأن 2187 شاحنة مساعدات دخلت القطاع خلال 25 يوماً، في حين أن الكمية المطلوبة- والمتوفرة- لسد الحاجات كانت تتطلّب 15 ألف شاحنة.
«فشل للإنسانية»... هكذا وصفت الأمم المتحدة المجاعة في غزة، وقال توم فليتشر المسؤول الأممي عن الشؤون الإنسانية، إنها «مجاعة أُحدثت القسوة وبُررت بالانتقام ومُكنت باللامبالاة واستمرت بالتواطؤ»، لافتاً إلى أنها «تحصل تحت رقابة المسيرات والتكنولوجية العسكرية الأكثر تقدماً في التاريخ، وكان يمكن تفاديها لولا العرقلة الإسرائيلية لدخول الأغذية المكدّسة على بعد مئات الأمتار من الحدود». أما بنيامين نتنياهو فواصل أطول مسلسل لأكاذيبه اليومية معتبراً تقرير الأمم المتحدة «كذباً محضاً»، وقال: «إسرائيل لا تنتهج سياسة التجويع، بل تنتهج سياسة منع التجويع». لكن أنطونيو جوتيريش شدد على أن «إسرائيل بوصفها القوة المحتلة عليها التزامات، بموجب القانون الدولي، بضمان الإمدادات الغذائية والطبية»، وقال: «لا يمكن أن نسمح باستمرار هذا الوضع دون عقاب»... صحيح أن القانون الدولي يمكن أن يعاقب إسرائيل على «جريمة استخدام التجويع كسلاح حربي»، إلا أن هذا القانون يحتاج إلى تفعيلٍ يبدو مستحيلاً طالما أن الولايات المتحدة تحصن إسرائيل بـ«الفيتو» الدائم وتشن حملة عقوبات ممنهجة ضد قضاة المحكمة الجنائية الدولية.
حتى المجاعة لم تمنع قادة إسرائيل من إصدار الأوامر لاحتلال مدينة غزة ومخيمات وسط القطاع، فهذه من المناطق التي لم يُقتلع سكانها، وقال وزير الحرب يسرائيل كاتس: «سنجعلها مثل رفح وبيت حانون»، أي «أرضاً يباباً» خاوية من أي مظاهر للحياة. وبدلاً من الغذاء والدواء اللذين يمنعونهما، تعهد قادة إسرائيل بتوفير خيام للنازحين الجدد. جاءت التحذيرات لإسرائيل من كل الأنحاء بأن استكمال احتلال القطاع يتسبب بـ«كارثة إنسانية»، لكن هذه الكارثة هي بالضبط ما تريده إسرائيل. ولم يكن صعباً عليها أن تُفشل للمرة الألف مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى، فإذا عُرضت عليها «صفقة شاملة» طلبت «صفقة جزئية» ثم العكس بالعكس، وقيل إن موافقة «حماس» على المقترح الأخير «أحرجها» لكنها زاوجت بين مواصلة التفاوض ومباشرة عملية احتلال مدينة غزة. عائلات العسكريين الرهائن المتبقين أحياء أصبحت متيقنة الآن بأن حكومة نتنياهو قررت تصفية أبنائها.
في ذروة العجز العربي والدولي يسود الجنون الأمريكي- الإسرائيلي. ترمب يضغط للحصول على «نوبل السلام» ويفاوض السماء على «دخول الجنة» من بوابة أوكرانيا، ونتنياهو يتسلح بـ«تكليف إلهي» للتمدد في المنطقة وإقامة «إسرائيل الكبرى»، وبتسلئيل سموتريتش يخصب «صهيونيته الدينية» بمشروع استيطاني طرحه تحت شعار «الموت للعرب» معلناً أن هدفه «دفن الدولة الفلسطينية»... أما الدول الغربية التي تسارع اليوم للاعتراف بـ«دولة فلسطين» فقد غضت النظر طوال عقود عن كل الجرائم الإسرائيلية، من الاحتلال إلى الاستيطان، ومن إجهاض كل عمليات السلام إلى الإبادة الجماعية غزة، إلى محاولة تهجير الغزيين إلى دولة جنوب السودان التي تعاني أيضاً من خطر مجاعة كامنٍ.
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»