على كورنيش الدمام، حيث يلتقي الأفق بماء الخليج، يجلس المصوّر فيصل المحمدي أمام البحر الذي يصفه بأنه «مرآته ومتنفّسه». لا يراه مجرد مشهد طبيعي، بل مصدر إلهامٍ وهدوء، وصفحة مفتوحة تبوح له بالحكايات قبل أن تبوح بها عدسته. هناك، بين نسيم البحر وضوء الغروب، تتجدد علاقته الدائمة بالصورة وبالذاكرة.

البداية من رأس تنورة

وُلد فيصل في بيت امتلأ بالصورة قبل الكلمة.


والده كان من أبرز المصورين الهواة في رأس تنورة، وملأ المنزل بالكاميرات والألبومات والصور التي تحكي قصص العائلة والمكان. من خلال هذا الجو البصري، ترسّخ في ذاكرته حب العدسة دون أن يُقال له ذلك صراحة.

حتى شقيقه الأكبر، سار في الدرب نفسه، فكان قدوته الأولى، وورث عنه شغف الصورة والسرد البصري. ومع الأيام، بدأ فيصل يحبو نحو الكاميرا، متكئًا على إرث عائلي صاغ ذائقته الفنية ورسّخ في داخله حسّ التفاصيل.

منزل يعيد ذاكرة الصورة

يضحك فيصل حين يقول إن بيته اليوم يشبه بيت والده بالأمس: كاميرات فوق الرفوف، وعدسات في كل زاوية، وصور تملأ المكان. لكنه يضيف بابتسامة: «الفرق أنني لا أستخدم الألبومات الورقية كثيرًا، أصبحت الصور محفوظة في الأجهزة، لكني ما زلت أحنّ لتلك الملموسة.. فهي أصدق وأدفأ من أي شاشة».

البحر ملهم الصورة وذاكرة المكان

حين يذكر البحر، تتغير نبرة صوته وكأن الحديث يمرّ عبر موجٍ داخلي.

«البحر قريب من قلبي وبيتي»، يقول فيصل دائمًا. «فيه عبق الماضي ورائحة المدينة التي أحب، وذكرياتي مع والدتي وإخوتي».

البحر بالنسبة له ليس فقط خلفية للصورة، بل هو جزء من هوية المكان ومن مشاعره الخاصة. أمامه أجد السكون، ومنه يستمد الإلهام.

وإذا كان البحر ملهِمَه الأول، فإن المطر توأمه في الإبداع؛ فكلما هطلت السماء، حمل كاميرته وخرج ليراقب قطرات الماء على الأرصفة والزجاج والمعالم، وكأنه يطارد لحظات من الضوء قبل أن تختفي.

من عدسة العائلة إلى عدسة الأب

رغم تنوع اهتماماته في التصوير بين الطبيعة والبورتريه والمشهد الحضري والمناسبات الوطنية والاجتماعية، تبقى صور أطفاله الأقرب إلى قلبه.

يقول إن كل لقطة لهم توثق «جزءًا من روحه» ولحظات لا يمكن تعويضها. «كل ابتسامة، كل حركة، هي حياة تختصرها الصورة. لذلك أعتبر صور أطفالي الأجمل على الإطلاق».

التحدي متعة والانتصار مكافأة

لم تكن رحلة التصوير سهلة دائمًا. الوصول إلى مواقع مرتفعة لتصوير المعالم، أو تحمل مشقة الطقس والمواقع الوعرة، يمثل تحديًا دائمًا للمصورين الميدانيين.

لكن فيصل يرى في كل صعوبة متعةً خاصة. «أجمل صوري وُلدت وسط الصعوبات، لذلك أشعر أن لكل لقطة نَفَس انتصار صغير»، كما يقول. هذا الإصرار جعل من كل تجربة تصوير مغامرة تستحق الحكاية.

مجتمع الصورة شغف لا ينتهي

فيصل لا يعمل في عزلة، بل يحرص على التواصل مع المصورين السعوديين والعرب عبر المنصات الرقمية، يتبادلون التجارب والأفكار والنصائح.

يُعجب بالمصور الكويتي ماجد الزعابي في تصوير الحياة البرية، وبالسعوديين فرحان الشمري وفيصل الجريفاني في تصوير الطبيعة، ويؤكد أن كل مصور «يجيد رسم الضوء بحب» هو مصدر إلهام بالنسبة له.

«مجتمع الصورة مدرسة لا تنتهي، نتعلم فيها يوميًا أن الجمال لا يُلتقط إلا حين نراه بصدق»، كما يصفها.

مواقف لا تُنسى

ورغم الجدية التي يتعامل بها مع التصوير، لا تخلو رحلات فيصل من مواقف طريفة. يروي ضاحكًا: «كم مرة وصلت للموقع واكتشفت أن بطاقة الذاكرة في البيت! أو أن الفلتر سقط في البحر قبل أن أبدأ التصوير!».

لكنه يرى أن هذه المواقف باتت جزءًا من حكايته الطويلة مع الكاميرا، وأنها تضيف «نكهة خفيفة» لرحلة ممتدة من الشغف والاكتشاف.

الصورة حكاية تروى بالنور

لا يرى فيصل المحمدي في التصوير مجرد مهنة، بل لغة يعبّر بها عن إحساسه بالحياة. يؤمن أن كل صورة تختزن حكاية، وكل حكاية بحر من الضوء والذكريات.

يختم حديثه قائلاً: «التصوير بالنسبة لي تأمل قبل أن يكون عملًا. أتعلم منه الصبر مثلما أتعلمه من البحر. ما زلت أؤمن أن أجمل الصور لم ألتقطها بعد، وأن البحر سيظل يُلهمني حتى آخر مدى».