وبينما أنا في مثل هذه الحال إذا بأحد الأصدقاء يروي لي هذه الأسطورة: كان أحدهم يدعي دائماً وعلى ملأ من الناس أنه قدير على أن يعمل كيت وكيت، وأن يقوم بما لا يستطيع غيره القيام به.. وبعبارة موجزة أنه يصنع المستحيل ثم يسرد عليهم ما قام به من أعمال ومغامرات تشبه الخوارق.
وذات مرة -وهو يروي أكاذيبه منفوخ الأوداج- إذا بأحد المستمعين يقتحم عليه المجلس، ويزحم الحاضرين بمنكبيه حتى يصل إلى منبره ويرفع يده بشيء.. ولشد ما كانت دهشتهم حينما تبينوا أن هذا الشيء لم يكن إلا «ذيل حمار» ثم شرع يخاطبه بقوله:
- يا صانع المستحيلات.. إني رجل مسن وفي حاجة إلى دابة أركبها فهلا خدمتني ورحمت شيخوختي هذا ذيل حمار فأرجوك أن تركب له حماراً.. وبهت المتنفج الأكبر أو الفشار الأكبر ولم يسعه إلا أن يختفي من المدينة..
وهذه النادرة -نادرة الحمار وذيل الحمار- توحي بمعان كثيرة على سياق هذه القصة
ومغزاها وعلى غير سياقها ومغزاها.
المدرس الكسول الذي يقضي وقت الدرس في الحديث ويحتال على ضياع الحصص بشتى الأساليب يتنمر في الامتحانات ويضع أسئلة صعبة ثم يطلب إلى تلاميذه أن يجيبوا إجابة صحيحة كاملة.. نقول له: لا يا سيدي إنك لم تعلمهم إلا ذيل الحمار فكيف تطلب إليهم أن يضعوا لهذا الذيل حماراً.
الرئيس الذي يرهق مرؤوسيه بالعمل.. يطلب إلى هذا أن يحرر عشرات المعاملات، وإلى الثاني أن يكتب على الآلة الكاتبة مئات المذكرات، وإلى الثالث أن يراجع أكداس الدوسيهات، ويطلب كل هذا في ساعات محدودة وهي تحتاج إلى عدة أيام، بينما هو نفسه يضيق ذرعاً ببضعة توقيعات، إنه لا يصنع شيئاً سوى أن يكتب «تبييض» يجري فرزها.. «إلى قلم التحرير».. ذيول حمير يطلب أن يركب لكل منها حماراً.
ويرهق الموظفون أعصابهم، ويضيعون إجازاتهم، ويستعينون بأصدقائهم ليتموا مهمة صنع الحمير من ذيول الحمير، حتى إذا جاءت «الترقيات» ضاعت جهودهم سدى وتخطتهم الدرجات، ثم يملأ رئيسهم الدنيا فخراً.. أنا الذي صنعت كل هذا ويستأثر بكل شيء.
ما أكثر المدعين في هذه الدنيا أولئك الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
ولي صديق لا يستطيع أن ينتج إلا إذا تهيأ له ذيل الحمار، يظل يفكر.. ويدخن.. يدخل الحمام ويخرج منه ويتجول في الشوارع والطرقات ويذهب إلى الحدائق والصحاري، ويلتمسه في الأماكن الهادئة والأماكن الصاخبة، يغرس عينيه في الأرض فلا تستجيب له، ويقضي في ذلك أياماً وشهوراً حتى إذا أصابه اليأس رفع رأسه إلى السماء.. ثم يجيء إلينا ونضع بين يديه مطلعاً أي مطلع - فيفرح وينتشي كما يفرح الطفل بالحلوى، وفي سهولة ويسر تواتيه القريحة ولا تمضي ساعة أو بعض ساعة حتى يفرغ من صنع الحمار أي القصيدة العصماء.
وعقب انتهائي من كتابة ما سبق زارني بعض الموظفين المرهقين بالعمل واطلعوا على ما سودت، وكأنما أعجبتهم الفكرة أو وجدوا فيها صدى لما في نفوسهم، وسمعت أحدهم يخاطب زميله: قل له أن يأتي بكل ما لديه من ذيول، وأنا مستعد أن أضع لكل منها حماراً يا.. يا...".
وعندئذ تذكرت (الحزيرة) التي نهايتها طار طار.. أفهم يا...
وضحكت ولكني ما لبثت أن كففت لأني أنا نفسي كنت في حاجة إلى ذيل حمار لأكتب هذا.. الحمار.. عفواً هذا المقال.
1958*
نافذة:
* ناقد وكاتب سعودي «1920 - 2011»