11 شهراً منذ اعتلاء أحمد الشرع سدة الرئاسة، شهدت فيها سوريا أحداثاً أمنية في غاية الصعوبة، كان أولها ضبط الأمن في أنحاء البلاد بعد انهيار المنظومة الأمنية الأسدية، تبعها إحباط مخطط مئات الفلول في الساحل الذين غدروا بقوات الأمن وارتكبوا مجزرة راح ضحيتها أكثر من 400 رجل أمن وعسكري في ليلة واحدة، لتأتي بعدها أحداث السويداء الدامية التي أعقبت غدر أحد الزعماء الدروز بالقوات الحكومية والاستعانة بالاحتلال الإسرائيلي لمواجهة قوات بلاده.

وإلى جانب ذلك، تسلّم الشرع قيادة سوريا في أسوأ حالاتها، فالبلاد تعاني حصاراً اقتصادياً خانقاً بفعل «قانون قيصر»، وغالبية الدول قطعت علاقاتها مع سوريا منذ أيام نظام الطاغية الأسد، ومئات آلاف البيوت والمدارس مهدمة وملايين السوريين يعانون النزوح ويسكنون الخيام والبيوت المتهالكة، والخدمات متدهورة والكهرباء غائبة في غالبية المناطق وشحيحة في العاصمة، والعوز في كل زاوية وغالبية الشعب تحت خط الفقر.

أمام هذا الواقع المغرق في السوداوية، بدا واضحاً أمام القيادة السورية الجديدة أن تحسين الأوضاع داخلياً يستلزم إعادة سوريا إلى العالم، فحمل الشرع الملف السوري وبدأ رحلة صعبة لإعادة بناء علاقات سوريا الدولية، وإطلاق تحالفات جديدة قائمة على الاحترام والمصالح بعيداً عن تحالفات النظام البائد التي قادت سوريا نحو الهاوية، فكانت الزيارة الأولى إلى المملكة العربية السعودية التي يعود لها الفضل الأكبر في فتح أبواب العالم أمام القيادة السورية الجديدة خصوصاً أبواب الولايات المتحدة الأمريكية التي تمسك زمام الأمور في هذه البقعة الجغرافية.


وأثمرت الجهود عن تقارب غير مسبوق بين سوريا والولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى بمساعدة الأشقاء السعوديين والقطريين والإماراتيين والأردنيين والأتراك، وبجهود الدبلوماسية السورية التي قادها وزير الخارجية أسعد الشيباني والمبعوث الأمريكي إلى سوريا توم باراك، مما أسهم في تقريب وجهات النظر ونقل رؤية القيادة السورية إلى الرئيس ترمب.

ارتبط اسم الشرع بالقوة وحسن الأداء عند كل تصريح للرئيس الأمريكي دونالد ترمب آخرها تصريحه أول من أمس، والتقى الزعيمان مرتين هذا العام، الأولى في الرياض مايو الماضي بوساطة من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، والثانية في نيويورك سبتمبر الماضي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأثمرا تفاهمات مبدئية تشكّل توطئة للقاء الكبير الذي يسجله التاريخ.

يفتح ترمب أبواب البيت الأبيض لاستقبال الرئيس السوري الجديد في حدث استثنائي له دلالات عميقة، إذ إنها المرة الأولى التي يزور فيها رئيس سوري العاصمة الأمريكية، ما يشير إلى تغير في نظرة أمريكا لسوريا وإمكانية حدوث تحوّل استراتيجي في علاقات البلدين، فترمب ينظر إلى سوريا اليوم على أنها دولة وليدة في موقع استراتيجي وبموارد مهمة يمكن بناء علاقات سياسية واقتصادية معها وليست نظاماً وظيفياً خادماً لـ«المعسكر الشرقي» و«محور الشر» كما كانت أيام الطاغية الأسد.

وتبدو من تصريحات ترمب ومبعوثه باراك الرغبة الأمريكية في مساعدة سوريا على النهوض والاستقرار الذي يصب في مصلحة المنطقة والعالم، خصوصاً أن فشل الدولة السورية الوليدة يعني حتماً تدهور الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي، والعودة لموجات لجوء هائلة وحرب داخلية مدمرة وبروز تنظيمات متطرفة من جديد بشكل قد يفوق قدرة المنطقة على احتوائها وإنهائها، وهو ما يعني وفق الرؤية الاستراتيجية الأمريكية خطراً على حليفتها الأهم في منطقة الشرق الأوسط ومنابع الطاقة وخطوط الإمداد.

بعض الأوساط الأمريكية والإقليمية وحتى السورية تتساءل عن سرّ المدح المتكرر للشرع من قبل ترمب، والترحيب بالقيادة السورية الجديدة، خصوصاً أن الرئيس الأمريكي معروف بحدته وتصريحاته النارية واستخدامه أسلوب الابتزاز السياسي ضد كثير من الدول، فما الذي يريده الرئيس الأمريكي من دولة خارجة للتو من الجحيم ولا يمكنها أن تقدم الكثير؟

بالتأكيد أن أمريكا تعلم ما لا نعلم وتسير نحو أهدافها غير المعلنة بثقة، وهرولتها باتجاه دمشق لها أهداف إضافية سنتعرف عليها مع الأيام، وإلا ما الذي يدفع أمريكا لاستباق لقاء الشرع مع ترمب والمسارعة إلى إعداد مسودة القرار الذي اعتمده مجلس الأمن الدولي الخميس الماضي بشطب اسم الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب من قائمة الجزاءات المفروضة على تنظيمي داعش والقاعدة، وتجديد تأكيد الالتزام القوي بالاحترام الكامل لسيادة سوريا واستقلالها وسلامتها الإقليمية ووحدتها الوطنية، والدعم المستمر لشعبها.

في الجوانب المعلنة، يريد الشرع من ترمب رفع العقوبات الأمريكية وإلغاء قانون قيصر بشكل كامل من أجل إنهاء معاناة الشعب السوري وإيجاد بيئة آمنة للمستثمرين. ومن المعلوم أن إلغاء القانون قطع شوطاً مهماً إذ وافق مجلس الشيوخ مؤخراً على ذلك، وانتقل إلى مجلس النواب الذي تناقش فيه لجنة مشتركة مع مجلس الشيوخ إقرار إلغاء القانون في موازنة وزارة الدفاع، وصولاً لتوقيع الرئيس الأمريكي قبل نهاية العام على الموازنة الجديدة، ودخول إلغاء القانون حيز التنفيذ.

كما يأمل الشرع أن تجد أمريكا حلاً للعربدة الإسرائيلية على أراضي سوريا المحتلة، وأن تتوسط بفعالية للوصول إلى اتفاق أمني يجبر قوات الاحتلال الإسرائيلي على العودة إلى خطوط ما قبل 8 ديسمبر 2024 والالتزام باتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974، واحترام سيادة ووحدة الأراضي السورية مما سيصب في صالح الاستقرار الإقليمي.

ويسعى الرئيس السوري إلى استثمارات أمريكية بقوة خصوصاً في المجالات الحيوية، وأن تساعد الولايات المتحدة في جهود إعادة الإعمار إذ إن سوريا تحتاج إلى ما بين 700 و900 مليار دولار لإعادة الإعمار.

ويحمل الشرع رسالة واضحة أن سوريا منفتحة على المجتمع الدولي، وستسهم بفعالية في بنائه بعيداً عن سياسة المحاور الهدّامة ودعم الميليشيات الإرهابية التي كان نظام الأسد يتفنن فيها.

في المقابل، يريد الرئيس ترمب من الشرع ضمان أمن الحدود مع الإسرائيليين والتوقيع على ما يسمى «اتفاقيات إبراهيم»، وإبعاد الأجانب عن القوات السورية، وترحيل المرتبطين بالحركات الفلسطينية، ومساعدة الولايات المتحدة على منع عودة داعش، وتحمل مسؤولية مراكز احتجاز داعش شمال شرقي سوريا، إضافة إلى الالتزام بالتسوية السياسية واتخاذ إجراءات لضمان حقوق الإنسان وحماية الأقليات والقيم الديمقراطية، وكل تلك المطالب يمكن التوصل إلى توافق بشأنها.

ويبرز الحدث الأهم في الزيارة، بتوقيع الشرع على انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة داعش، ويبدو واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية درست الموضوع جيداً، وتعلم أن الشرع أفضل زعيم يمكنه تفكيك منظومة داعش الأيديولوجية والفكرية والتنظيمية، لأن له تجربة واسعة مع التنظيمات الجهادية جعلته ينضج ويقاتل داعش سنوات ويخسر عدداً كبيراً من جيشه، حتى استطاع التغلّب عليهم وإنهاء وجودهم في أماكن سيطرته شمال غربي سوريا.

ويحمل انضمام سوريا إلى التحالف قيمة كبيرة أيضاً لجهة الاستجابة الأمريكية للمطالب السورية بتسلمها هذا الملف، مما سيترتب عليه نقل التنسيق والمقرات الأمنية والعسكرية إلى سيطرة الدولة السورية وتحييد ميليشيات «قسد» عن هذا الملف، لتفقد بذلك «قسد» أهم ورقة تستند إليها في تصوير نفسها على أنها الوحيدة القادرة على تحييد خطر داعش، وتتخذها ذريعة لرفض اندماج قواتها ضمن الجيش الوطني.

أثر الزيارة ينعكس على مكانة سوريا بين الأمم، ففتح أبواب البيت الأبيض يمثل ضوءاً أخضر للقيادة الجديدة ويمنحها شرعية دولية وثقة عالمية، لتبرز للمرة الأولى في تاريخها الحديث شريكة في الاستقرار الإقليمي والدولي، بعد أن كانت أيام «الأسدين» مصدراً للأزمات مع الدول المجاورة ومعملاً للسيارات المفخخة والمخدرات ومقراً للمسالخ البشرية.